ما تزال الموسيقى تشكل أحد أهم المحددات الثقافية التي قد يشترك فيها جميع البشر بغض النظر عن الاختلافات التاريخية والحضارية المتعددة، فهي اللغة البشرية المشتركة التي يفهمها الانسان بلا تركيز على ارتباطها بكلمات للغات متعددة قد لا يفهمها المستمع ولكنه يتمكن من التفاعل العقلي والنفسي مع ايقاعاتها وحركاتها وقرارها وجوابها وغيرها من عناصر القواعد الموسيقية. وعلى الرغم من التغير الذي يطرأ على الموسيقى بتغير العصور، فإن اساسياتها وقواعدها العامة ما تزال هي نفسها التي ابتدعها الانسان قبل آلاف السنين، وما الاختلاف الظاهر سوى انعكاس للواقع الثقافي الذي يتم معايشته في كافة العصور.

ولقد اختلف علماء الاحياء الطبيعية وعلماء النفس في الدافع من وراء نشوء الموسيقى وتطورها وأهميتها للانسان، وعلى الرغم من الغموض الذي ما يزال يكتنف العمليات العقلية والنفسية التي تصاحب عملية ابداع الموسيقى أو عملية الاستماع لها وما تشكله من أهمية للعديد من البشر، فإن معظم العلماء يجمعون على أن للموسيقى ارتباط أساسي في عملية التكوين العقلي الأولي للفرد منذ الطفولة وارتباطها الوثيق بعملية نمو وتطور المركز اللغوي والكلامي في الدماغ، بل إننا نجد اهمية لخصائص موسيقية اساسية في عالم الحيوان تجعلنا نؤكد أن الموسيقى كانت ذات وظيفة أساسية في التطور البشري في الزمن القديم ولكنها تحولت نتيجة لتعقد العمليات الادراكية العقلية إلى الوظيفة الجمالية والفنية التي يتم تصنيفها في زمننا الحالي.

في كتابه الصادر العام 2007 بعنوان (ميوزيكوفيليا: حكايات عن الموسيقى والدماغ) يعرض عالم الاعصاب، الطبيب (أوليفر ساكس)، لجملة من الحكايات عن مرضى أصيبوا بحالات مختلفة من التفاعل غير الطبيعي مع الموسيقى، وهي حالات عايشها من خلال عمله كمتخصص في المخ والاعصاب وعلم النفس بجامعة كولمبيا بمدينة نيويورك. والمصطلح الجديد الذي ابدعه الكاتب (ميوزيكوفيليا) يعني بالعربية (حب الموسيقى)، ويذكر ساكس في مقدمة كتابه أن من الغريب أن نجد نوع إحيائي (الانسان) يقوم بانتاج والاستماع لمجموعة من الاصوات ذات الاشكال المحددة والتي لا تحمل وظيفة بيولوجيا معينة، وبالرغم من ذلك نجد أن ارتباط نوعنا البشري بهذه الايقاعات والاصوات ضرورياً كضرورة ارتباطنا بالكلام والادراك والسلوك العقلي المعقد، وهو ما يجعلنا نكاد نجزم بأن الموسيقى تطورت كناتج جانبي لنشوء الكلام كعملية أساسية في استمرار النوع البشري وتطوره.

قسم الكتاب إلى مجموعة من الاجزاء الاساسية والتي تحوي على فصولاً فرعية يقدم من خلالها ساكس عدد من الحوادث والحالات المرضية التي جعلت المصابين بها يتحولون من أفراداً عاديين في تفاعلهم مع الموسيقى إلى تفاعل استثنائي وفي بعض الاحيان إلى حالة من الهوس الموسيقي، ليس استماعاً فقط ولكن آداءً وتأليفاً كذلك، وهو ما لم يعرف عنهم قبل اصابتهم بهذه الحوادث أو الامراض. وقسم الكتاب إلى الاجزاء التالية:

 

  • مسكون بالموسيقى.
  • مدى الموسيقية.
  • الذاكرة، الحركة، والموسيقى.
  • العاطفة، الهوية، والموسيقى.

 

 

ويركز البروفيسور ساكس من خلال هذه الاجزاء على العلاقة والارتباط الوثيق بين الانسان والموسيقى، من خلال سرده لهذه الحالات المرضية التي جعلت من المصابين بها يتحولون إلى موسيقيين في سن متأخرة أو بعد أن اصيبوا بحوادث أدت إلى أصابة الدماغ بالارتجاج أو بعد عملية جراحية لاستئصال ورم بالدماغ ، او حالات الصرع التي يتم السيطرة عليها بالاستماع للموسيقى أو تلك التي تزداد حدة بالاستماع لموسيقى معينة بشكل متواصل، أو استعمالات الموسيقى كوسيلة للعلاج النفسي والعصبي لبعض حالات الشلل الرعاشي (الباركنسون).

ويتميز السرد العلمي الذي يقدمه أوليفر ساكس بالسلاسة والوضوح ولا يخلو من روح الدعابة في بعض الاحيان، ففي الفصل الأول من الكتاب حول (الميوزكوفيليا المفاجئة)، يسرد الكاتب، حالة الطبيب (توني سيكوريا) والذي اصيب في سن الثانية والاربعين بحادث عندما ضربته صاعقة وهو يستعمل الهاتف العام، ادى إلى حروق في وجهه وقدميه وتوقف قلبه عن العمل لبضعه دقائق، قبل أن يتم انقاذ حياته، دون أي تشوهات أو اعاقة، سوى فقدان مؤقت للذاكرة تماثل للشفاء بعد بضعه أسابيع، إلا أنه بعد شهرين من الحادث بدأ يشعر بحاجة ملحة للاستماع للموسيقى بشكل لم يعتد عليه من قبل، إلى جانب حضور مقطوعات موسيقية في خياله لم يكن قد استمع لها من قبل، وخلال الشهور اللاحقة تحول اهتمامه المفاجئ بالموسيقى إلى هوس أثر على حياته الاسرية، وعلى الرغم من عدم اهتمامه السابق بالموسيقى أو تعلمه العزف على أية آلة موسيقية وجد نفسه بعد بضعة اشهر يشتري بيانو ويقوم بالعزف عليه دون معرفة مسبقة بل إنه وبعد اشتراكه في بعض الدروس الموسيقية المبدئية استطاع تأليف العديد من المقاطع الموسيقية الكلاسيكية، وحتى هذه اللحظة لا يستطيع أوليفر ساكس تقديم تفسير متكامل لما حدث في دماغ توني سيكوريا نتيجة حادث الصاعقة، إلا أنه يستخدم هذه الحالة وغيرها من الحالات في الكتاب للاستدلال على ارتباطنا العقلي كنوع احيائي بالموسيقى بشكل وثيق واهميتها في تطورنا الذهني والنفسي.

كما يعرض أوليفر ساكس لحالات مرضية وراثية والتي يولد فيها الاطفال بمتلازمات تشمل عدد من الاعراض المرضية المختلفة بعضها لا يمكن علاجه كما هو الحال مع متلازمة (ويليامز)، التي لا تتطور فيها القدرات العقلية للمصاب إلى أكثر من قدرات طفل صغير، ولكنه يتمتع بقدرات موسيقية استثنائية، من اهمها قدرته على اعادة آداء وعزف أية مقطوعة بعد الاستماع لها لمرة واحدة، وغيرها من المتلازمات المرضية التي يظهر فيها المصاب نبوغاً موسيقياً خارقاً على الرغم من العجز الظاهر للقيام بالعديد من الوظائف الطبيعية الأخرى كما هو الحال مع بعض المصابين بمرض (التوحد). كما يعرض لبعض الحالات التي لا تستطيع استيعاب أي مقطوعة موسيقية (اميوزيا)، أو تلك التي ترتبط فيها الالحان بأشكال حسية أخرى وهي ظاهرة تسمى (سينيستجيا) او (المحاسّة) وفيها يرتبط سماع اللحن الموسيقي بلون معين أو طعم معين، كما يركز على بعض حالات الهلوسة الموسيقية وخاصة تلك التي يصاب بها بعض الموسيقيين المحترفين.

يخلص أوليفر ساكس، إلى أننا كبشر لسنا مجرد كائنات ناطقة فحسب، بل إننا كائنات موسيقية، وما الحالات المرضية التي مرت عليه من خلال عمله في تخصص علم الاعصاب إلا دليل على أن الموسيقى ليست مسألة حادثة في تاريخ التطور البشري، وإنما مرتبطة بشكل وثيق بتكويننا الفطري كبشر، وأن القلة النادرة من البشر الذين لا يملكون اذناً موسيقية أو لا يستمتعون بالايقاعات والتناسق اللحني باختلاف اشكاله، قد يجدون أنفسهم بعد الاصابة بمرض معين أو نتيجة لحادث ما، قد اصبحوا موسيقيين أو أن الموسيقى قد تحولت إلى جزء اساسي في حياتهم دون معرفة السبب الرئيسي وراء هذا التغير. وهو يرى أن حياة بلا موسيقى ستكون بلا شك حياة بائسة مجردة من الجماليات ومن الخيال الملهم التي تسبغها الموسيقى على حياتنا.
____

* أوليفر ساكس: ولد العام 1933 بالعاصمة البريطانية لندن، تحصل على بكالوريوس طب العام 1958 من جامعة اوكسفورد، انتقل للعمل والاقامة بمدينة نيويورك العام 1965، صدر له العديد من الكتب في مجال البحوث العصبية والنفسية كان أولها العام 1970 بعنوان (الصداع النصفي، الشقيقة)، ثم صدر له كتابه الشهير (الصحوات) العام 1973 والذي اقتبسه مسرحياً الكاتب (هارولد بينتر) وتحول إلى فيلم سينمائي العام 1990 من بطولة روبيرت دينيرو وروبن ويليامز وفاز بعدد من الجوائز العالمية. تحصل أوليفر ساكس على العديد من الجوائز العلمية والادبية، وما يزال يزاول عمله كاخصائي اعصاب بمدينة نيويورك.

* (ميوزيكوفيليا: حكايات عن الموسيقى والدماغ) Musicophilia: Tales of Music and the Brain، تأليف : اوليفر ساكس Oliver Sacks، 367 صفحة، دار نشر بيكادور (النسخة البريطانية).