تابعت باهتمام في الفترة الماضية النقاش السياسي والفكري الدائر في الولايات المتحدة الامريكية حول قانون اصلاح نظام الرعاية الصحية الامريكي، وهو القانون الذي استغرق اكثر من عام من الشد والجذب في دهاليز السياسة الامريكية الشرسة لكي يصل إلى طاولة الرئيس باراك أوباما للتوقيع عليه كقانون سيسري مفعوله في الاشهر القادمة بشكل تدريجي. ولعل مرد اهتمامي بهذا الحدث إلى جانب تخصصي المهني، هو الاليات التي اتخذت لتمرير هذا القانون الذي اراه ايجابياً وسيمكن الولايات المتحدة من النمو في هذا الجانب الهام من الناحية الانسانية.

ويتلخص الاصلاح الصحي الذي جعله الرئيس أوباما في أعلى سلم اولوياته عند تسلمه الرئاسة مطلع العام الماضي، في النظام الصحي الامريكي الذي تديره الشركات الصحية والائتمانية الخاصة بشكل شبه كامل إلا في حالات محددة مثل نظام الميديكير الذي يكفل الرعاية الصحية لفئة كبار السن والميديكايد لفئة محدودي الدخل، إلا أن الاساليب الربحية التي اعتمدتها شركات الائتمان الصحي الامريكية جعلت أكثر من اربعين مليون أمريكي بدون تأمين صحي يكفل لهم العلاج في المستشفيات والمراكز الصحية ذات الجودة العالية، بل إن بعض شركات التأمين أصبحت ترفض تغطية تكاليف معالجة الافراد الذين يعانون من أمراض مزمنة أو لم يذكرها المواطن عند شرائه للتأمين الصحي، كما أن ارتفاع تكاليف المعالجة بشكل مضطرد في الاعوام القليلة الماضية إلى جانب تزايدها في السنوات القادمة، جعل شركات التأمين ترفع قيمة الاشتراك في خططها التأمينية وهو ما ادى ببعض العائلات والافراد إلى عدم قدرتهم المادية على دفع هذه الخطط دون أن يفقدوا مدخراتهم أو عقاراتهم في حال سقوطهم فريسة للمرض.

كل هذه الممارسات والمعطيات جعل النظام الصحي الامريكي يتراجع في قائمة الانظمة الصحية العالمية لمرتبات تراوحت في السنوات الماضية بين الثلاثين والاربعين عالمياً، على الرغم من تمتع المراكز الصحية والمستشفيات الامريكية بشكل فردي على مستويات عالية من الجودة في تقديم الرعاية الصحية بالمقارنة بدول أخرى في العالم، ولعل الفيلم الوثائقي (سيكو) الذي قدمه الكاتب والمخرج مايكل مور حول النظام الصحي الامريكي، رغم بعض المبالغات والاخطاء المتفرقة في الفيلم، دليل على “الازمة” التي يعاني منها النظام الصحي الامريكي وهو ما استدعى اصلاحاً ضرورياً للخروج به من هذا المأزق الاخلاقي والانساني.

وإذا قمنا بتجاهل الصراع السياسي الدائر بين الديمقراطيين من جهة والجمهوريين من جهة أخرى، وهو الصراع الذي وصل إلى حد السخرية عندما تم نقاش اصلاح نظام الرعاية الصحية، ولو تجاهلنا تعليقات بعض الصحفيين والمعلقين السياسيين من اليمين واليسار، فإن النقاش دار حول اتجاهين فكريين اساسيين عن دور الدولة والحكومة في حياة المواطنين.

الاتجاه الأول يقول بأن الحكومة مسؤولة عن حماية المواطنين وتقديم أفضل الظروف لهم لكي يحققوا استقلاليتهم وحريتهم وسلامتهم البدنية والذهنية ولكن دون ان تتحكم في نمط حياتهم أو طرق صرفهم لأموالهم الخاصة، وعلى الحكومة أن تحمي المواطنين من استغلال المؤسسات المباشر وغير المباشر لهم وتحويلهم إلى وسيلة لتحقيق المزيد من الارباح لهذه المؤسسات دون النظر للمسؤولية الاخلاقية الت
ي تقع على شركات القطاع الخاص.

الاتجاه الثاني يقول بأن الدولة تقوم على حرية كاملة للمواطن من التحكم والتسلط على حياته بالكامل، وأن الحكومة ليست ضرورية إلا في حالات محددة كالدفاع والسياسات العامة والقوانين التي تمنع انتهاك حرية الافراد من قبل أفراد أو مؤسسات حكومية أو خاصة، وأن هدف الحكومة هو التقليل بقدر الامكان من القوانين التي تتحكم في أسلوب حياة المواطنين.

وكان النقاش حول اصلاح النظام الصحي الامريكي يدور حول هاذين الاتجاهين منها ما كان جاداً ومنها ما كان ساخراً وهزلياً وإن ادعى الجدية، ولكن الاتجاه الذي عارض بشدة خطط الاصلاح الصحي كانت تصب في مسألة أن الحكومة تسعى لمزيد من التحكم في حياة المواطن الامريكي من خلال فرضها التأمين الصحي على الجميع، كما أن الوسيلة الوحيدة للحصول على الميزانية التي ستمول هذا الاصلاح والتي تقدر بأكثر من 900 مليار دولار على عشرة اعوام، وستكفل الرعاية الصحية لأكثر من 32 مليون امريكي بلا تأمين صحي في الوقت الحالي، ستأتي بفرض المزيد من الضرائب على أفراد آخرين في المجتمع، وأن ليس من حق الحكومة نزع أموال من فرد ما لتقديمها كإعانة لفرد آخر لتغطية تكاليف فواتيره الصحية، بل إن هناك من أعتبر أن الحكومة بهذا القانون ستستولي على اموال الفرد بطريقة غير شرعية فيما يشبه ما تقوم به الدول الشيوعية والاشتراكية الشمولية.

من وجهة نظري المهنية، من خلال تجربة العمل في نظام صحي حكومي مجاني في دولة نامية وشمولية (ليبيا)، ونظام صحي حكومي مجاني في دولة متقدمة وديمقراطية (بريطانيا)، ومن خلال عدد من المعطيات الفكرية التي لا أستطيع تجاوزها، أرى أن الرعاية الصحية يجب أن تكون شاملة ومجانية لجميع المواطنين دون استثناء، مع توفير البديل الخاص للعمل بشكل مقنن، وأن النظام الصحي القائم على نظام السوق والربح التجاري هو أسواء أنواع الاستغلال التي قد تقع على الفرد، بل إنني قد اتطرف واقول أن تحقيق الارباح المالية على حساب صحة المواطنين هي ارباح غير اخلاقية وتحول الفرد إلى أرقام واحصائيات مجردة من المشاعر والانسانية التي يتطلبها العمل في هذه الانظمة الصحية والعلاجية.

إن أي نظام صحي ضمن أي دولة حديثة باختلاف اشكالها السياسية معرض بشكل دائم للقصور والخطأ وعدم تقديم أفضل الخدمات للمواطنين، فليس هناك نظام للرعاية الصحية مثالي أو متكامل، فليس النظام الصحي المجاني والعام أفضل حالاً من النظام الصحي الذي يعتمد على التأمين الصحي الخاص أو العلاج بمقابل في المستشفيات والعيادات الخاصة، فكل هذه النظم لديها مميزات وعيوب، إلا أنني أرى أن الهدف الاساسي من أي نظام صحي هو تقديم أفضل الخدمات لرعاية المرضى والمصابين، فالمجتمع الذي لا يهتم بصحة افراده هو مجتمع معرض للانهيار الاقتصادي والاجتماعي، لذا فإن على الدولة مسؤولية صرف الاموال على جميع محددات الرعاية الصحية، من المباني والمعدات، إلى الاطباء والممرضات من أجل تقديم خدمة صحية أفضل جودة لأفراد المجتمع، لذا فإن على الحكومة أن توفر جميع الخيارات للمواطنين للعلاج، سواء ذلك كان خاصاً أو عاماً، بمقابل أو مجاناً، أو بالتأمين الصحي، وأن لا يتم استغلال حاجة وضعف المريض للتربح على حساب هذه المعاناة والألم.
____
* عبارة تنسب للشاعر فيرجيل، وذكرها نائب الر
ئيس الامريكي جو بايدن في مقدمته في حفل توقيع قانون الرعاية الصحية الجديد.

* الاشكال التوضيحية مصدرها موقع البي بي سي.