ما تزال المسألة القومية والعرقية فاعلة في الكثير من مناطق العالم، وإن كانت فترات تاريخية سابقة شهدت تنامياً للحركات القومية القائمة على نقاء العرق والاشتراك في المدونة التاريخية لشعب ما وخاصة مع نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ومروراً بنهاية القرن العشرين. وعلى الرغم من تصاعد الفكر الديني مع نهاية القرن الماضي وما نشهده في قرننا الحالي خلال العقد المنصرم من سيادة التعريف الديني للهوية، إلا أن المسألة العرقية ما تزال حاضرة بشكل قوي في المجتمعات التي ترى أهمية لتمييز نفسها عن بقية الجماعات البشرية الأخرى.
في كتابه (اختراع الشعب اليهودي) الصادر حديثاً في طبعته الانجليزية (دار فيرسو اكتوبر 2009) يبحث المؤرخ الاسرائيلي شلومو ساند عن اجابة لسؤال طالما شكل جزءاً من شخصيته الثقافية والعرقية والتي بنيت على اساسها الهوية اليهودية المشتركة. وهذا السؤال الثقافي والتاريخي يبحث في صميم تعريف من يكون اليهودي وكيف تم اختراع الهوية اليهودية القومية والدينية. ويقول ساند أنه تجنب الخوض في هذا البحث نتيجة العديد من العوائق النفسية الخاصة به من جهة والنتائج المصيرية التي قد تعيد تشكيل شرعية الوجود الاسرائيلي برمته، وهي الشرعية التي قد تكون محسومة في المخيال العربي في المنطقة، كون أنه لا شرعية للوجود الاسرائيلي على أراض تم احتلالها بالقوة ومن خلال غطاء سياسي وعسكري للقوى الدولية الكبرى ليتم طرد وتشريد شعبها وتحويل الواقع على الارض، إلا أن هذا اليقين العربي للقضية التي شكلت جزءاً مهماً من هوية المنطقة عشية اعلان قيام دولة اسرائيل العام 1948، يقابله يقين وشبه اجماع اسرائيلي بدرجة أولى ويهودي بدرجة ثانية من شرعية وجود اسرائيل كدولة تجمع يهود العالم من خلال الوعد الالهي في التوراة، والبحوث التاريخية التوراتية التي ترى أهمية لوجود تفسير تاريخي لممالك اليهود في العصور الغابرة، أو من خلال الاكتشافات الاثرية لمخلفات هذه الحضارة اليهودية التي تواجدت على هذه الارض منذ عدة قرون، واخيراً من خلال مبدأ القوة و”الشرعية الدولية” بقرارات مجلس الأمن والامم المتحدة التي أعترفت بوجود هذا الكيان السياسي في الشرق الأوسط.

إلا أن شلومو ساند لا يحاول ببحثه عن الاصل التاريخي للشعب اليهودي واكتشاف صحة هوية اليهود العرقية والدينية المشتركة، أن يؤكد أو ينفي شرعية الدولة الاسرائيلية ولكنه يسعى إلى اعادة انتاج هوية يهودية جديدة لا تقوم على الاساطير الدينية التوراتية أو التاريخ اليهودي القائم على الدراسات الدينية والنصية المقدسة، أو على الاصل العرقي المشترك ليهود العالم وانهم ينحدرون جميعاً من اليهود الذين تم نفيهم وتشتيتهم بعد تدمير الهيكل الثاني في العام 70 ميلادي من قبل الامبراطورية الرومانية، وهو يسعى كذلك إلى اعادة انتاج هوية اسرائيلية مشتركة لا تقوم على اساس العرق أو الدين وإنما على اساس الاشتراك في مكونات الدولة الديمقراطية الحديثة، المواطنة، المساواة في الحقوق والواجبات، والفصل بين الدين والدولة.

ويلخص شلومو ساند من خلال مقدمة كتابه (اختراع الشعب اليهودي) والذي نشر بالعبرية العام 2008 في اسرائيل واثار جدلاً حاداً في حينه، بسرده لعدد من القصص التي قد تبدو متفرقة ومتناقضة إلا أنها في النهاية تصل إلى خاتمة مشتركة، حيث يسرد قصة اليهودي البولندي الذي اعتنق الفكر الشيوعي في عشرينيات القرن العشرين وانضم للحزب الشيوعي البولندي ولينجو من محرقة الحرب العالمية الثانية من خلال نزوحه للاتحاد السوفيتي عشيه ان
دلاع الحرب التي شردت وقتلت جماعات بشرية عرقية متعددة، إلا أن هذا الرجل الذي لم يمارس يوماً أي من طقوسه الدينية وجد نفسه مع نهاية الحرب بلا وطن مما اجبره على النزوح إلى اسرائيل العام 1948 على الرغم من عدم اعترافه بهويته اليهودية الدينية.

القصة الثانية تدور حول شاب كاتلوني من برشلونة حارب في صفوف اليساريين ضد فرانكو في الحرب الاهلية الاسبانية واضطر للجوء إلى فرنسا ومن ثم اسرائيل بحثاً عن مأوى لأحلامه المضاعة بالعمل في الكيبوتز أو المستوطنات الزراعية التعاونية، وزواجه بفتاة يهودية، وانجابه ابنتين ومحاولة الدولة الاسرائيلية تصنيفه خارج دائرة المواطنة كونه غير يهودي. ثم نتعرف على الشاب الفلسطيني الذي وجد نفسه عربياً في دولة يهودية لا تعترف بمواطنته الكاملة ومحاولته الاندماج مع هذا المجتمع والهوية الجديدة بلا جدوى وصداقته الحميمة والبريئة مع شاب يهودي اشتركا معاً في التوجه السياسي اليساري والحلم الانساني بعالم لا يفرق افراده الاختلافات العرقية أو الدينية أو الثقافية ليرحل إلى السويد قاطعاً الامل بدولة اسرائيلية تعترف بهويته غير اليهودية.

ثم نلتقي بالشاب اليهودي مرة أخرى بعد عودته من الخدمة العسكرية الالزامية واشتراكه في حرب الايام الستة، أو ما يعرف بالنكسة، العام 1967 والتصدع الاخلاقي الذي اصابه بعد هذه التجربة وتعرفه على الشاعر الشاب محمود درويش في حيفا ونقاشاتهم حول هوية الدولة الاسرائيلية والعنصرية الممارسة على الفلسطينيين وغير اليهود في هذا الكيان الحديث. ثم نتعرف في باريس بفتاة فرنسية في الستينات تحاول التعرف على اصولها وثقافتها اليهودية لتتعلم العبرية وتسعى للهجرة لاسرائيل لتكتشف أنه غير معترف بها كيهودية وكمواطنة كون والدتها غير يهودية. وأخيراً نلتقي بالفتاة الروسية التي هاجرت مع أسرتها إلى اسرائيل من الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينات من القرن الماضي ومحاولتها الاندماج مع المجتمع الاسرائيلي إلا أنه لم يعترف بها كمواطنة اسرائيلية كاملة لأنها غير يهودية، لتنتهي هذه القصص الملخصة لحالة اسرائيل المعقدة بأن يبين لنا شلومو ساند انه أبن الناشط الشيوعي اليهودي البولندي وصهر اليساري الكتالوني الاسباني، وصديق حميم للفلسطيني المهاجر والفلسطيني الشاعر، ومدرساً للعبرية في باريس للفرنسية غير المعترف بيهوديتها، واستاذاً جامعياً للروسية التي تحاول أن تكون اسرائيلية كاملة.

ويتابع شلومو ساند، من خلال فصول الكتاب ومحاولته اثبات أن اليهودية العرقية التاريخية القائمة على التفسير التوراتي ليست سوى أسطورة تم اختراعها لخلق مشترك لهوية يهودية لا تقوم على الدين والمعتقد فقط وإنما صناعة العرق اليهودي من خلال قصة الشتات عبر العصور والتي انتهت بنفي اليهود في القرن الأول الميلادي والتي ينفيها شلومو ساند من خلال البحث التاريخي العلمي ويرى أنها لم تحدث بالشكل الذي يصوره المؤرخين التوراتيين، وفي حال سقوط هذا الحدث التاريخي، فإن سؤالين مهمين يبرزان بقوة وهما، أين ذهب اليهود الذين بقوا في فلسطين بعد تهديم الهيكل الثاني العام 70 ميلادي؟ ومن أين جاء اليهود المنتشرين حول العالم في حال عدم انحدارهم من اليهود الذين لم يهاجروا من الشرق الأوسط بحسب القصة المتعارف عليها، والتي على اساسها تكون الاعتقاد بعرقية اليهود وليس فقط ديانتهم المشتركة؟.

ويقدم شلومو ساند تفسيرين مثيرين للسؤالين المفترضين، حيث يقول بأن اليهود الذين بقوا في فلسطين منهم من بقي يهودياً ومنهم من اعتنق ديانات أخرى كالمسيحية والاسلام وبذلك فإن العرب الفلسطينيين في المنطقة هم اليهود القدماء، أما يهود العالم فقد اصبحوا يهوداً باعتناقهم لليهودية كديانة ومن ثم ارتباطهم بالتراث الاسطوري والديني والتوراتي اليهودي الذي منحهم ارضاً مقدسة يسعون للوصول إليها لتحقيق الوعد الالهي الازلي.

قوبلت دراسة شلومو ساند التار
يخية بالعديد من الانتقادات ليس فقط من المتطرفين والمتدينين اليهود أو من الاحزاب والجماعات الصهيونية، وانما حتى من قبل بعض المؤرخين والباحثين في التاريخ اليهودي العرقي والديني وهو ما اعاد احياء نقاش ثقافي في اسرائيل كان ما يزال يدخل ضمن المسلمات اليهودية غير القابلة للحوار والنقد العلمي التاريخي والسياسي، إلا أن بعض الاصوات المهاجمة حاولت تشويه اطروحات شلومو ساند بقولهم أن هذا الكتاب يحاول نفي شرعية الدولة الاسرائيلية وخدمة اهداف “اعداء” اسرائيل المعادية لها، ومنهم من وصمه بالخيانة وعدم الموضوعية في الطرح
.

وعلى الرغم من عدم اخفاء شلومو ساند يساريته اللادينية ومعاداته للصهيونية والتعصب العرقي بجميع اشكاله في العالم، وتنديده لممارسات الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، إلا أنه لا ينفي اسرائيليته واهميه وجود الهوية الاسرائيلية ودولة اسرائيل بشكل عام. فهو يرى أن اسرائيل تشبه الطفل الذي ولد نتيجة الاغتصاب، فقد ترفض فعل الاغتصاب أو المغتصب إلا أنك لا تستطيع أن تلقي باللوم على الطفل الذي ولد نتيجة هذه الجريمة غير المشروعة، بل عليك القبول به ومعالجة أي مشاكل نفسية واجتماعية قد يعاني منها. كما أنه يعترف بأنه قد يكون ارتكب بعض الاخطاء التاريخية العلمية في بحثه نظراً لضخامة وتعقيد دراسة هذا الموضوع الذي تتداخل فيه علوم عدة من بينها التاريخ والاجتماع والاعراق والاثار والجغرافيا والدراسات الدينية المقارنة، وهو الأمر الذي يدعو إلى أن يساهم في هذه الدراسة فريق متنوع من الباحثين إلا أنه لم يجد تعاون واسعاً لمشاركته البحث والتنقيب من قبل النخب المثقفة والاكاديمية في اسرائيل، ما دفعه إلى خوض هذه التجربة لوحده.

تتلخص أهمية كتاب (اختراع الشعب اليهودي) في كونه يبحث في الكيفية التي يتم من خلالها صناعة الأسطورة التاريخية التي تشكل الهوية المشتركة لأي كيان عرقي أو قومي، فلا يختلف اليهود في استخدامهم للتاريخ والنص المقدس والمرويات التراثية لخلق واختراع هوية قومية شرعية عن باقي قوميات العالم الحديث، وهو ما يتعارض في وجهة نظر شلومو ساند مع فكرة الدولة الديمقراطية الحديثة. وما يزال الشاب اليهودي الرومانسي (شلومو) يحلم بيوم تتحول فيه اسرائيل إلى دولة مواطنة للجميع، بخلق هوية وطنية مشتركة لكل مكونات المجتمع الاسرائيلي المتعددة الاعراق والديانات والثقافات، وهو يرى أن أولى خطوات تحقيق هذا الحلم هو تحطيم اسطورة اليهودية القومية من جهة وتصالح اليهود مع هويتهم وثقافتهم وتاريخهم المكبل بعقد الاضطهاد والعذاب والتيه.

____

*شلومو ساند: ولد العام 1946 في النمسا لأسرة من اليهود البولنديين وهاجر مع عائلته إلى حيفا العام 1948. صدرت له عدة كتاب وبحوث تاريخية وهو يعمل استاذاً للتاريخ بجامعة تل ابيب.