تميز العام 2008 باهتمام متزايد من قبل صناعة النشر والترجمة في بريطانيا بالثقافة والادب في العالم العربي. ففي مطلع العام حل العالم العربي ممثلاً بدور نشره كضيف شرف في معرض لندن الدولي للكتاب، كما زادت عدد الكتب المترجمة من العربية للانجليزية لكتاب وادباء عرب، كما أن جميع المؤشرات تدل أن الادب العربي سيحظى باهتمام مضطرد في الاعوام القادمة.
إلا أن هذه الصورة المشرقة والمشجعة لحالة طباعة ونشر الكتب والقراءة للثقافة العربية في بريطانيا، تقابلها صورة تدعو للتشاؤم والخيبة على صعيد القراءة وصناعة النشر في البلدان العربية.
تشير الاحصائيات إلى وجود اكثر من 700 دار نشر عربية، تعمل في صناعة طباعة ونشر الكتاب في المنطقة العربية، وهذا الرقم لا يعكس تصنيفات هذه الدور العربية من حيث تبعيتها للقطاع العام الحكومي أو استقلاليتها في القطاع الخاص، إلا أن تركز دور النشر في عدد محدود من البلدان العربية عرفت بعراقتها في صناعة النشر (مصر، لبنان، سوريا)، يمثل جزء من مشكلة نشر وطباعة وتوزيع الكتب في المنطفة.
وبالنظر إلى قائمة الدول المنتجة للكتب في العالم والتي تتصدرها بريطانيا بانتاجها 206,000 كتاب في العام 2005، نجد أن العالم العربي بمجموع دوله التي تزيد عن العشرين ينتج ما لا يزيد باي حال عن 15,000 كتاب في العام وهو ما يضع المنطقة العربية في الترتيب الرابع عشر عالمياً خلف دول ككندا (19,900)، البرازيل (21,574)، هولندا (34,067)، فرنسا (34,766)، ايطاليا (35,236)، روسيا (36,237)، اسبانيا (46,330)، اليابان (56,221)، ألمانيا (71,515)، الصين (100,951) والولايات المتحدة (172,000).
ولكن الصورة تزداد قتامة عند توزيع عدد الكتب المنتجة على البلدان العربية المختلفة، فنجد أن مصر ولبنان تتصدران الدول العربية الناشرة للكتب بعدد لا يزيد عن 3500 كتاب لكل منهما في العام، تلحقهما السعودية بما يزيد عن 3000 عنوان سنوياً (؟)، لكن الهوة تزداد بالنظر إلى باقي القائمة. فأقرب بلد عربي للبلدان السابقة الذكر هو المغرب بما لا يزيد عن 1000 كتاب سنوياً، اما باقي البلدان العربية مجتمعة فهي بالكاد تنتج 3500 كتاب سنوياً.
يشير تقرير الامم المتحدة للتنمية البشرية للعام 2005 أن عدد سكان المنطقة العربية يزيد عن 300 مليون نسمة، وهو ما يجعل العالم العربي واللغة العربية سوقاً مثالية لازدهار صناعة الكتاب والنشر والطباعة بما يشبه سوق الكتاب باللغة الانجليزية.
إلا أن المطلعين على صناعة النشر في العالم العربي يرجعون اسباب تراجع هذه الصناعة إلى ارتفاع معدلات الامية وتدني مستوى دخل الفرد العربي بما يجعله غير قادر على شراء الكتاب نتيجة لارتفاع سعره. إلا أنه بتحليل بسيط لتوزيع السكان في المنطقة العربية قد يوضح صورة مختلفة عن تلك السائدة والنمطية.
فعودة لتقرير الامم المتحدة المشار إليه نجد أن نسب الامية في البلدان العربية تتفاوت من 10% إلى 50%، وفي المتوسط فإن اكثر من 60% ممن تزيد اعمارهم عن 15 سنة يجيدون القراءة والكتابة والتي يقابلها بالعدد ما يقارب 125 مليون نسمة، وعلى اعتبار أن ما يزيد عن 20% من سكان المنطقة العربية يعيشون تحت خط الفقر (دولار واحد يومياً) فإن العدد ينخفض إلى 100 مليون نسمة ممن يجيدون القراءة والكتابة ويعيشون فوق خط الفقر، وحتى بتقليصنا لهذا الرقم ليشمل أولئك الذين مداخليهم بالكاد تضعهم فوق خط الفقر فإن الرقم لن يصل بأي حال لما دون 50 مليون نسمة، وهو سوق كبير يمكن لصناعة الكتاب أن تنمو من خلاله وتزدهر، ولكن السؤال لما لم يحدث هذا النمو؟!
هناك عدة محددات لهذه الازمة التي نعيشها في العالم العربي في انتشار ثقافة المطالعة ومن ثم صناعة الطباعة والنشر. أول هذه المحددات نوعية الفئة المستهدفة في المنطقة العربية، فعلى الرغم من ارتفاع معدلات التعلم في بعض البلدان العربية إلا أن المخرجات التي تنتج من العملية التعليمية متدنية ثقافياً، نتيجة اعتمادها على وسائل تلقينية غير استقصائية أو بحثية، والتي تنمي بذلك الرغبة في الاطلاع والتعليم المستمر.
المحدد الثاني، الرقابة التي تمارسها الحكومات العربية على صناعة الطباعة والنشر وانعدام الحد الادنى من حرية الرأي في بعض البلدان إلى جانب عدم دعم صناعة النشر والطباعة من قبل هذه الحكومات بحيث اصبحت الثقافة وانتشار الكتاب والمطالعة في أخر قائمة اولويات صانعي القرار في البلدان العربية.
المحدد الثالث يتعلق بدور النشر العربية العاملة في صناعة الكتاب، فعلى الرغم من عراقة بعض دور النشر العربية في هذا المجال إلا أن اغلبها يعمل من خلال منهجية الخروج بأقل خسارة مالية ممكنة عند نشرها للكتب، وخاصة في الجانب الثقافي الادبي، فقليل من هذه الدور العربية يعمل وفق اسس صناعة الكتاب العالمية، والتي من بينها البحث والاتصال بالكتاب والمؤلفين واختيار الكتب التي ستنشر وفق جودتها من خلال تقييمها بلجنة فنية من المحررين المهنيين، الاهتمام بتفاصيل طباعة الكتاب من التدقيق اللغوي والاملائي والطباعي، ونوعية الورق وجودة تصميم الاغلفة بطريقة تسويقية فنية بحتة، الاهتمام بتسويق الكتاب والدعاية له من خلال وسائل الاعلام المختلفة واقامة حفلات التوقيع والاهتمام بالترويج للكاتب والكتاب، وأخيراً تشجيع النقد الفني للكتب الصادرة من خلال ارسالها للنقاد والصحف والمجلات المتخصصة في هذا المجال.
وعلى الرغم من أن المسؤولية تقع جميعاً على المحددات السابقة في تدني انتشار الكتاب في العالم العربي إلا أنني اجدني ألقي بالمسؤولية الاكبر على عاتق دور النشر العربية التي لم تمارس نوعاً من المهنية في تنفيذها لبرامج النشر والطباعة التي تقوم بها، فالصورة الحالية تشير لفشل ذريع وقد لا ابالغ بقولي أن هناك نوع من التواطؤ مع الحكومات العربية في استمرار الحال على ما هو عليه من قبل هذه الدور.
فسيرة حياة كتاب عربي في منطقتنا كئيبة وبائسة، فهي تبدأ بمؤلف يقرع ابواب دور النشر لغرض نشر كتابه فإن اسعفه الحظ ووافقت دار النشر على طباعة الكتاب ونشره فإنها تطلب مقابلاً نظير تكاليف الطباعة والتوزيع، وفي اي حال فإن عدد النسخ المطبوعة لن تزيد في المتوسط عن 2000 نسخة، يتحصل الكاتب على بضعة مئات منها ليتخلى عن نسبة من الارباح نظير بيع الكتاب، ولكن الاسواء من ذلك أن هذه النسخ القليلة في سوق عربية يزيد عدد الفئة المستهدفة فيه إلى 50 مليون نسمة لن تجد طريقها للقارئ بسهولة نتيجة الرقابة الحكومية وصعوبات التوزيع والتدوال، مما يمنح الكتاب المنشور قدرة على التعمير لعدة سنوات قبل ان ينفذ.
سيقول البعض بأن المواطن العربي لا يقرأ ولا يحب المطالعة، ولكن الملاحظات والمشاهدات تنفي عكس ذلك، أو على الاقل تبين أن مشكلة تدني القراءة في العالم العربي ليست بذلك السوء المتصور، واكبر دليل على ذلك هو ارتفاع نسب الاطلاع من خلال شبكة الانترنت وبمعدلات استثنائية في بعض الاحيان، كما أن بعض نماذج النشر والطباعة الناجحة لبعض الكتب والكتاب والتي خالفت السائد والنمطي كذلك، تثبت أن الفرد العربي لم يهجر القراءة واقتناء الكتاب.

وربما نظرة اخيرة لأحصائية بسيطة تبين لنا حجم الازمة. فدولة صغير مثل مالطا تنتج 404 كتاب سنوياً مقابل عدد سكان يزيد عن 400 ألف نسمة بينما مصر تنتج 3500 كتاب سنوياً مقابل عدد سكان يزيد عن 70 مليون نسمة.
_____
هوامش:
* استعملت كلمة العربي والعربية مجردة من معانيها “العرقية” و”القومية” للدلالة على اللغة العربية المستخدمة في هذه البلدان في الكتابة والقراءة وانتاج الكتاب.
* جميع الاحصائيات مأخوذة من مركز الامم المتحدة للإحصاء تحت بند انتاج الكتب عالمياً، والتي ملخصة في هذا الرابط بموسوعة الوكيبيديا.