1

– اعدمه.

تثاقلت بندقيته تحاول يده جرها على امتداد ساعده، لأول مرة في حياته قد تغيّر ملمسها المخلّق من لوح الماهوجني على كفِّه ليحس به خشناً وبارداً، ملأ فوهتها وتقدم في خطىً حثيثةً نحوه، زمنه يمر كأنه أيام، أشهر أو أعوام. العرق يتسرب من جبهته، كانت رقبته دبقة من العرق، حرر زراً في قميصه الأبيْض، العرقٌ بين إبطيْه يزيد من خضرةِ بدلته العسكرية؛ خضرة تشبه ورق الخروْع أثناء تبللها بالندى، ذلك الندى الذي يأتي خلال حرِ الصيْف، بدلته المليئة بدبابيس لا يتذكر كم أفنى من عمره ليضعها لا لكيْ يثبت شيئاً: لا كونه وطنياً، لا كونه بطلاً، لا شيء آخر؛ البدلة الخضراء القديمة بدت أكثر ضيقاً عليْه، مضت سنواتٌ قلائل منذ آخر مرة قدر له أن يرتديها رداءً رسمياً. متى كان ذلك اليوم الذي اتخذ فيه القائد قرار إعفاءه مع المقدرة على استدعاءه متى ما شاء؟

أراد أن ينفذ الحكم بكامل حلته، رغم أنّهم قد سمحوا له بأن يرتدي الجلابية التي اعتاد رغم أنفة على الراحة والانتماء التي تعطيها له.

ولدته له، كانت الأم متعبة تخوض في نومها عندما تعرف على وجهه لأول مرة. توقفت مدافع الحرب وارتدت بنادقها إلى المخازن ومرّغ تراب الصحراء وجه آخر جنوده، لم يعلم كيف ومتى ولماذا انتهت، كل ما تلقاه ضربة موجعة ليضطر للانسحاب مع سراياه، لم تكن هناك أية أوامر، إذ أنه بصفته عبداً للأوامر: لا يناقش، لا يسأل، لا يفكر، إنّ الأوامر لم تعدّ ليتم نقاشها على ما اعتاد البشر في ما يعتقدونه، لذا فإن كل ما كان يفعله هو طاعة الأوامر. عاد من وراء صحراء تلك الأرض ليجد في عينيْ الوليد شررٌ يخبره أنه ذكر. كان صحبة أحد أصدقاءه الضباط لما رآه. صديقه حمله عنه ونظر في عينيه ليقول:

– يا وحش.

في الممرِ المؤدّي إلى الجِنان لمح صورة له معه. الصورة المعلقة بجانب مرآة المدخل جعلته يحوّل ناظريْه بين ما كانه وما يكونه الآن، يجلس فيها بهيبة بدلته العسكرية وبجسده الممشوق وشعره المغطس بزيت الزيتون وشاربه المعقوف، وعلامات الحنكة وجدلُ الشباب في وجهه، يقف أمام المرآة وبطنه التي انتفخت كالخميرة من غناءِ الكُفرةِ للياليه تكاد تنفلت من الأزرار والشيْب يتسارع ليشتعل في جسده بينما يرقد شاربه مخذولاً على شفته العليا؛ وجهه الذي اعتاد على أن يرى فيه الطموح بدى مكلوماً، فيها يجلس على كرسيٍ خشبيٍ أخضرٍ يرقد عليْه جلد ورأس ثعلبٍ بريٍ كان قد اصطاده خلف الصحراءْ أثناء الحرب، أبعد من وادي دوم. الآن لا يذكر مكان الكرسي ولا مكان الثعلب الذي ألقى به إلى القمامة. في الصورة، وليده يجلس على فخذه الأيمن ينظر إلى الكاميرا بعينين تحتكران مشاعره. دربه طيلة حياته ليكون أفضل الجنود، أقوى الجنود، الجندي الذي لا يلتفت إلى الوراء فقط من تلك النظرات التي تملكته. البندقية في الصورة خلف الكرسي، وفي المرآة تمسكها يده المهزوزة الثقة.

ثقته التي اهتزت منذ أن حدث ما حدث. بعد أن فشل مشروعه وتركه لله، بين البيت والمسجد، تحتله أفكار أخرى غير أفكاره. فكر أنّها كانت أكبر أخطاءه. وأنه ما كان عليه أن يتركه لله كما أمره أبوه. ثقته التي اهتزت لما اعتقد أنّه يمكنه أن يصنع من بشري آلة تنفذ الأوامر دون أن تنقاد للحظات الجنون، وثقته التي اهتزت لما اعتقد أنه يمكن لحيوان أن لا يتبع غريزته في الحرية واللعب.

عندما سكنَ أول مرة في شارع الشاحنة الحمراء لم يكن الناس يتفوهون بشيء إلا بالأسباب التي تجعل أحد المقربين إلى القائد أن يقطن شارعاً منسياً كهذا، جاء هو ووليده وقطن البيت الذي يلتصق بالشاحنة الحمراء القديمة التي تنبتُ من عجلاتها الممزقة شجرة خروْع، تسمى الشارع باسمها إذ أنها وجدت منذ نشأة أول منازلها في ساحة اللعب بالشارع – كان الشارع عبارة عن سانية واحدة كبيرة- تقادم الزمن على الشاحنة لتصبح ملعباً للأطفال، مدرجاً لمشاهدة مباريات كرة القدم، مكاناً للاختباء، حماماً عمومياً يتشكل مع التصاقها بشجرة الخروع وحائط بيت الضابط، مأوىً للهاربين من المدرسة أو مضافة للمراهقين الذين يحاولون برعشة التجربة الأولى تدخين سجائرهم المسروقة من علب أبائهم، عندما يأوون للقيلولة بعد يوم عمل مضنىً بالشايْ والأوراق الحكومية والأحاديث. ولأن الناس لم يعتادوا على أن تقطن شخصية كبيرة الحي فإن استغرابهم زاد عندما يبقى البيت وحيداً وتختفي الحياة فيه أياماً لتعود للبيت أياماً أخر حتى ظنوا في بعضِ الحالات أن قاطنيه مجرد أشباح لولا الحارس الذي يخلفونه في جنان البيت وباحته يسرح. ست سنوات مضت يتنقل فيها بين البيت ومعسكره في الكُفْرَة حيث يمضي أيامه بالتدريب وصياح الجنود، كما يمضي لياليه صحبة أصدقاءه الضباط باحتساء الكُفرة يشرح لهم مدى أهمية خلق الجندي المثالي وأنّه لم يجد بين كافة الدفعات التي دربها واحداً يمكنه أن يكون جندياً صالحاً لدخول معركة، يحكي لهم عن أيام الحرب الأخيرة وكيف كان الجنود الذين تراوحت أعمارهم بين الثانية عشر والخامسة والعشرين يغوطون سراويلهم ويبللونها في مواجهة الموت. يحدثهم عن مشروعه الذي يعكف عليه عن الوليد. يعود للحيْ، لشارع الشاحنة الحمراء يشاهد الأطفال يلعبون الكرة أمام بيته فيستخف بأباءهم الذين لا اهتمام لهم بمستقبل أبناءهم يتركونهم ينفلتون من عقالهم. يدخل البيت ليجد الوليد يقف هناك بانتظاره، يتفحص وقفته. يبتسم، فالانضباط الذي ترسمه وقفته، المشاعر التي تصنعها فيه نظرته المطيعة كانا لا يقدران بثمنٍ في صدره. كان نظام حياته مبنياً على مبدئ الجيوش الشيوعية التي تدرب على أيدي ضباطها، يرى كل شيء من خلال بدلته. تعامله مع الناس، مع أم الوليد، مع سيارته، بيته، ملابسه المدنية، صحون مطبخه، جِنانه، الأطفال في الحيْ وأباءهم وأمهاتهم، أصحاب الدكاكين والتجار والموظفين الحكوميين كلها كانت نابعة من بدلته العسكرية. كل شيء يجب أن يسير حسبها، الجميع جنود أو ضباط أعلى رتبةً في عيْنيْه. لذا، فربى وليده على هذا المبدأ.

“الحارس” والحارس…كانا أشر من عرفهما الشارع.

2

كان الحارس ذئباً شرساً، مُزِجَت فيه درجات البني كاملة، هالة سوداء حول عينيه تزيد من شراسة مظهره من النظرةِ الأولى. شغل أحاديث الأطفال الذين يلعبون الكرة في الساحة الملاصقة للبيت بين العصر والمغرب. كانوا قد صنعوا مرمييْن من ألواح فضلات البناء التي انتشرت في نواحي الشارع الشاب الذي لم يزد عمره عن عشرين سنة، نصبوا المرميين لتشكل الساحة ملعباً لكرة القدم مجهزة بمدرجيْن: الشاحنة الحمراء من ناحية وبئر عربي قديم في الناحية المقابلة من مخلفات السانية القديمة، اكتسب الملعب لذلك أهمية للأطفال والشباب، فقد كان الملعب الوحيد الذي يملك مدرجات للجلوس ومشاهدة المباريات بين الشوارع. لم تتوقف الأقدام الحافية لذلك من الجري على أرضيته وركل الكرات هنا وهناك، في الصيف والشتاء، تحت المطر وفي قيظ الحر، لا تتوقف أبداً عن الهرولة، ركل الكرات والإصابة بجراح إلا عندما تقذف الكرة في البيت الذي يقطنه الحارس. عند ذلك، يهتاج الجميع ويصبح عمر المباراة على المِحك. لطالما كان الحارس في بيت “الحارس” كابوس الأطفال.

إلى هذا اليوم، ورغم أنّ هواية اصطياد الكلاب الشارذة والتجول بها بين شوارع الحيْ كانت من هوايات الأطفال إلا أنّ أحداً من أبناء الشارع قط لم يتجرأ على فعلها، خصوصاً بعد الحادثة. يتجرأ مجموعة من الأطفال أن تخطر ببالهم تلك الفكرة الجنونية واللذة التي يشاهدون الجميع في بقية الأحياء فعلها، يحلمون بأنفسهم يحاصرون الكلب في زاوية بعصيْهم وحبلهم، ويتمكنون منه فيربطون الحبل على رقبته ليجروه به ويضربونه ويسيرون به في الأحياء والشوارع، مهللين وضاحكين ومغنين والكلب يجتر نباحه. يسيلُ منهم اللعاب لمجرد حضور الفكرة فقط، فيخافون ويرتدون على أعقابهم حالما يتذكرون أنه وفي يومٍ ما. جعل الحارس الحي يخشى من تربية الكلاب، ولم يدخل الشارع مذاك كلب واحد. كان هنالك زمن لم يعد أحد يعرف الفرق بين الكلاب والبشر، كان الجميع يطلق على بعضهم البعض مسبةً ” الكلاب”، بدأ الناس تقيداً بالقائد بتوصيف بعضهم البعض بلفظ الكلاب، ” كلاب ضالة” و”كلاب سائغة” وكان الأطفال يسوقون الكلاب في الشوارع، أخرج الناس أمثالاً قديمةً عن الكلاب ونفخوا فيها الحياة وقالوا ” ذيل الكلب لا يعتدل أبداً” وظلوا يشبهون بعضهم بعضاً بالكلاب. وقد قامت الحكومة بإخراج دفعات من جهاز مكافحة الكلاب الضالة، الحيوانية منها والبشرية، في الداخل والخارج. حتى اعتقد الجميع أن لا أحد منها يجوب الشوارع أبداً.

مدّ يده إلى الصورة، وضع البندقية جانباً وتفحصها كأنه يبحث عن شيءٍ ما داخلها، تذكر صديقه أيام الحرب وهم يجترون أنفسهم في الليل بعيداً عن القتال والجنودِ الهاربين، يقول له متهكماً وهو يحتسي دوره من الكفرة ثم يمرر له دوراً في كأس الشايْ:

– إن كنتَ تريد حقاً أن تصنع جندياً مثالياً، فعليك بتدريب الكلاب.

– الكلاب؟. يتساءل وهو يحتسي مرارة الشراب. تلذغه حرارته وتهكم صديقه.

– نعم الكلاب، الكلاب مطيعة. عرفتُ في روسيا كلاباً تحمل رتباً يمكنها أن تسيّر جيشاً. تخيل جيشاً من جنودك يقوده كلب. يقول صديقه ويتفحص عينيه بابتسامة.

– أتعرف المسبات التي استخدمها في سب جنودي؟ أنتم كلاب…وأقل من كلاب. يقول ويملأ دوره ويمرره له.

– إنهم أقل من كلاب. اسمع عندما نعود من هذه الحرب سأهديك جرواً، لديْ كلبة أعتقد أنها قاربت على الإنجاب. ولف يا صديقي، الشراسة في أشدها. آخر ما تبقى من الذئاب المطيعة.

يقول صديقه، يمرر أصابعه على كأس الشايْ المملوء بالشراب المر وهو يحكي له روعة حيوانه التي ابتاع أمها جروةً من روسيا. ثم يذكر له روسيا والأيام التي أمضاها فيها، الحسنوات التي أحبهن أو ضاجعهن والشراب الذي شربه، فودكا، ماتريوشكا، الرقصات الروسية، الثلج، العلم الروسي، والتدريبات القاسية التي تلقاها في الجنس والجيش، كل ذلك الذي عايش هو منه التدريبات القاسية والفودكا. يقاطع صديقه قائلاً:

– ربما عليْنا أن نرسل كافة الجنود إلى بلدٍ أخرى.

– تريدنا أن نحتل بلاداً بعربدتنا؟ هاهاهاهاها كانوا يرسلون بضعة عشرات منا ولم نكن منضبطين. يصرح بالكلمات عالياً في سقف الغرفة الوحيدة المدمجة بمروحةٍ في المعسكر.

– أنا كنتُ منضبطاً. يقول له وهو يفحصُ ضوءَ المصباح الأصفر يحرق حائط الغرفة ويزيد من عرقه. كان سهل التعرق.

– أنت لازلت منضبطاً صديقي، منضبطاً إلا عندما يتعلق الأمر بالشراب. يسخر صديقه ضاحكاً.

– لكنّ الكلاب في هذه البلاد إما للحراسة أو لتجزية أوقات الأطفال. قال له.

– حسناً، أنت صديق قديم للقائد. بحقِ المال الذي كان يقترضه منك، يمكنك أن تجعله يستحدث وحدة الكلاب. يقول وهو يجتر كأسيْن على التوالي يفصلان نصف كلماته، من نصفها الآخر.

– هاهاهاهاهاهاهاهاها لم يعد ينصت لهكذا أحاديث. يقول.

– يمكنك اقناعه بأهمية الأمر. لكن عليك أن تجد مسبات أخرى لوحدتك إن حدث شيء كهذا، مثلاً أن تقول لجنودك: أنتم بشر…وأقل من بشر. لا تريد أن تسب كلباً بوصفه بالكلب. سيبدو من الغباء فعل ذلك.

ينهي صديقه الحديث ليصمت هو رافعاً كأسهما الصغير قائلاً:

– صحة.

– صحة صحة للحارس. أكثر الضباط انضباطاً.

يقول له صديقه ممرراً كأساً آخراً. كانوا يشربون أدوارهم بسرعة، بجرعة واحدة في كأس شايْ صغيرة لا تتعدى 50 ميللي لتر، في ليلة من ليالي الحرب البائسة. فقدوا جنوداً كثر، بعض أولئك الجنود كانوا هم من قتلوهم. كانت هناك أوامر تحظر عليهم أن يتولى جنديٌ واحد من المعركة. كان يشرف يومياً على إعدام الذين يحاولون الهرب. الصحراء، الحرب، الجن، العدو الخفيْ، الأرض العدوّة لهم كانت تصيب الجنود بالهلع والرعب، بعضهم جُرّ من مدرسته الثانوية ” ثكنته العسكرية” – إذ الجميع حُكم مواطنته هو حاكم، ثري، وجندي-.

يغيب المشهد، يرى قميصه وقد بلل عرقه العنق واللون البني يوسخ حوافه. عاد لغرفته، نزع الجاكيت، نزع القميص. ارتعشت أصابعه وهو يمررها على الأزرار، ألقى بالقميص على الأرض ومضى يبحث في خزانة الملابس عن قميصٍ آخرٍ نظيف. لم يكن شيء يحدث كهذا قبل اليوم. قال لنفسه في خذلان.

3

ويحدث أن يركل أحد الفتيان الكرة لترتفع عالياً، ينظرون مشدوهين من ارتفاعها واندفاعها نحو السماء داعين الله أن لا تتعدى حواجز السور العالي لبيت “الحارس”- السور الذي يشبه أسوار المعسكرات- لكن الله يخيب دعواتهم لتسرع الكرة مختفية تسسقط حيث يقبع الحارس، يصنع الفتيان سلماً بشرياً ليتمكن أحدهم من تسلق السور، يصل يجول بناظريه في الجِنان، يجد الكرة قد استأنست مكانها تحت إحدى عمات الرجال؛ النخيل التي تدور في هيئة مستطيلة حول الجنان الترابي، يجول الفتى بجسده بحثاً عن البناء الذي يخشاه الجميع في الحيْ. لا أثر لساكنه في الخارج، الباب الخشبي يبدو مغلقاً لكنه قد يكون مفتوحاً أيضاً. يتابع المكان، نباتات الوذينة، شجرة ليمون “شفشي” في منتصف الجِنان، الحشيش النجمي ينتشر في المكان وبعض النباتات الطفيلية الأخرى بسلّها. والحارس؟ لابد أن يكون في المكان. يمسك الفتى بحجارة الجدار ويتنفس بسرعة، ينظر ناحية الباب الحديدي ليتأكد أن القفل لا يعمل وأن كل ما عليه للخروج هو تمرير المتراس ليفتح الباب، يصيح فيه الفتيان في الأسفل ” اقفز أيتها الفتاة”، تصطك أسنانه، يجد بخربشة أصابعه على السور حجراً صغيراً، يرمي بها حيث الباب الخشبي حتى تصنع قرقعة في المكان. يشاهد ارتداد الحجر دون أية حركة، يقفز، يسرع ناحية الكرة. يسمع حركة في الأجواء. يشعر بوخز في ساقه، ينزع السل النجمي الذي التصق به. يحك ساقه، يركل الكرة. يتجمد. يبحث في المكان، يشعر بالتجمد رغم رغبته في الحركة، يسمع الحركة مرة أخرى. يرى الباب الحديدي بعيداً رغم قربه قاب قوسيْن، يرى الباب الخشبي قريباً رغم بعده بعد الكفرة عن شارع الشاحنة الحمراء. يتصبب عرقه، يرى نفسه يسرع إلى الباب رغم تجمده تحت شجرة النخيل: وأخيراً يتمكن من التحرك عندما يشاهد ظلاً تحت إحدى الشجرات البعيدة، كما يسمع صوت سلاسل حديدية تنشد وغرغرة. فزع، يقترب من الباب الحديدي، يمرر المتراس، يفتح الباب. ويسمع حشرجة خلفه ليغلق الباب. يقسم أن لا يعود للقفز إلى البيت مرة أخرى.

4

في الليل، ليل السلم بعيداً عن الصحراء. كان صوت كلب وحيد يعوي في المكان الذي لا تجوبه الكلاب.

في ليل الحرب. لم يكن هناك كلاب في الجوار، لا شيء. لم يكن أحد يسمع في الخلاء الذي يحيط بهم شيئاً سوى الريح وعويل الجن ربما. كانت كل ليلة تشهد حالة قبض على مجندين يحاولون الهروب، قد أفلح هو في جعل الحراس يأخذون عملهم بجدية. في إحدى الصباحات كان يقيم التمام اليومي كما هي عادته فلحظ اختفاء جنود من المعسكر، أنزل بالحراس عقاباً جعلهم يرهبونه. صوّب مسدسه في رؤوسهم جميعاً وقتلهم واحداً تلو الآخر ثم خطب في الجنود أن هذا ما سيكون عليه حال الحراس الذين يتراخون في عملهم. لكن ذلك لم يوقف الراغبين في الهرب، فقد كان الهرب مسلكهم الوحيد من الموت. إما الهرب من الموت أو الموت هرباً، أو فقط محاولة النجاح في هروبهم من كل ما كان ينتظرهم؛ مذهباً يعتقدونه. كان يشاهدهم يرتعدون في سراويلهم. يبكون. يصرخون مناشدين أمهاتهم. كانت أوامره تلقى عليه بالتقدم فقط؛ لم يأتِ له أي إذنٍ بالرجوع أو التقهقر. لذا، فقد رمى بجثثهم في الصحراء، سماه الجنود ” الوحش” فقط لأنه لم يبدِ رحمةً اتجاههم. يتصل به القائد ” لا تقهقر…إلى الأمام. إلى الأمام” يجيب بثقة ” حاضر سيدي”. يغلق السماعة. تمر بذاكرته حوادث الهروب وعصيان الأوامر التي كان يجابهها بكل حزم. يخرج من قمرته ولكن قبل الخروج، ينظر لجسده الممشوق داخل بدلته العسكرية، يتحسس مسدسه وبندقيته. يجمع الجنود للتمام الصباحي بثقة أنّ حراسه قد تعلموا درسهم، رؤوس بعض من الفاشلين في الهرب في ساحة المعسكر مطأطأة، مكبلين وركبهم تحتك بالأرضية الحارة الخشنة لم تسترح منذ بداية الفجر. العرق، الدموع، حشرجة الصدور، الخوف، الموت يدغدغ مشاعرهم: سبعة ثامنهم كان ابن قبيلته – كانت الروابط القبلية عند قبيلته مثل أخٍ لأخيه، أب لابنه-، مضى في إعدام كافة رفاقه وجعله آخرهم ليشاهدهم يسقطون ورصاصة في مؤخرة رؤوسهم. كان الفتى قد انهار من البكاء ” أرجوك يا عماه. دعني أعود لأمي”، ضغط بالمسدس أكثر ناحية مؤخرة رأسه وقال له ” قل سيدي…يا كلب”، يتدارك الفتى نفسه ” سيدي..رجاءً..دعـ…” ويضغط على الزناد ليرى دمه يتدفق من الخلف إلى الأرضية الحارة.

ولكن هاهو ذا… بشيء من القلق، يبدل قميصه الذي لم يكن ليخطئ في ارتداءه قبل الآن ليرتدي قميصاً آخراً. يشاهد صورته في انعكاس مرآة غرفة نومه التي لم يعتد على وجودها بهذا الحضور من قبل فترتعش يداه، يرتدي جاكتته، لاحظ أنّ دبوساً قد سقط منها، حاول وإصبعه يرتعش إعادة الدبوس على صدره دون فائدة، وضع الدبوس على الطاولة، فتح الخزانة الخشبية تحت المرآة، كانت ثلاجة صغيرة تقبع داخلها، فتح الثلاجة، وجد قنينته البلاستيكية، تجرع كمية كبيرة منها. حسبَ أنه قد خلق الجندي المثالي، رباه ودربه وعلمه وأدبه وصقله كما يطمح. لم يلتفت لأمه، لطالما كانت الأم عائقاً اتجاهه. لذا فقد عاش معه وحيداً وحرمها حتى حق رؤيته، لا يضعف الانسان إلا اتجاه الأم. كل الجنود يتقهقرون عندما يتفكرون أمهاتهم. لذا فقد قطع ذلك الحبل منه. كان مشروعه الخاص، لم يسمح لأحدٍ غيره أن يزرع ارتباطاً به أقوى وأشد من ارتباطه به.

– إن كنتَ تريد صناعة جندي منضبط عليك أن تفك رباطه من أمه. تذكر ما قاله لصديقه وهما يتحرران من تعب نهارات الحرب منغمسيْن في لياليها المليئة بالبرد الممزوج بالدفءِ داخل أجسادهما.

– إن ولدت لك زوجتك ابناً. هل ستربيه ليصبح جندياً؟ قال له صديقه وقد توردا خداه.

– قد أفعل ذلك. قال. لم يكن يفكر أبداً بهذه اللحظة.

– إذاً سيكون عليك أن تبعده عن أمه. زوجتك.

– سيتعين عليْ ذلك فعلاً. قال بثقة السكران.

– كان الروسيون يبعدون جراءهم عن أمهاتهم ويرضعون الجراء من مرضعات بلاستيكية. ليكون الكلب ولياً فقط لهم. احفظ هذا عندما تصبح مدرب الكلاب. قال صديقه.

– سيتعيْن عليْ إذاً أن أبعد وليدي عن ثديْ أمه حالما تنجبه. قال له في تهكم.

– الأبناء ليسو كالكلاب يا صديقي. قال له.

– هم مثلهم إن كان الاثنان سيصبحون جنوداً. ربما علينا فعلاً أن نفكر في الأمر. نربي جيشنا منذ أن يخرج من رحم أمه بعيداً عن كل مظاهر المدنية وداخل أساور المعسكر. قال كمن يطرح أطروحة فلسفية جديدة بجدٍ.

– هاهاهاهاهاهاها سيكون لديك جيش من الأطفال. قال صديقه الذي اعتاد على ضحكاته خلف سحر الكفرة السريع.

– إنّ جيشنا من الأطفال حقاً. مادمنا ندرب فتياناً في عمر الثانية عشر والخامسة عشر وبعضهم لم يرمي منيه بعد. لما لا ندرب أطفالاً في عمر اليوم واليومين؟ طرح سؤاله وتجشأ كفرته.

– الشيوعيون أكلوا دماغك يا صديقي. صدقني…هاهاهاهاهاهاها.

5

أما الوليد فظل كالأسطورة. لم يكن في بدءِ حياته بمستطاع أحد رؤيته، كان لا يغادر مكانه إلا بأوامر آمر البيت. لم يلعب. لم يأكل. وقد لا يتنفس إلا بأمر الآمر، “الحارس”. كان يمكنه من سقف البيت فقط أن يرى الأطفال يلعبون كرة القدم، تلج الكرة فوق السور فيشاهدها تتدحرج حتى تتوقف ليتقدم أحد الفتيان قافزاً بحذر يركلها مجدداً خارجه ويجري هارباً من الباحة كأنها مسرح جريمة عليه أن يغادره. كانت تلك اللحظات متنفسه الوحيد، أن يشاهد الأطفال يلعبون.

6

أما الحارس فظل كابوساً. لم يجعله صاحبه يرى أحداً طيلة أيامه الأولى. لا يغادر مكانه إلا بأوامر سيده. لم يلعب. لم يأكل إلا بالأوامر التي علمها إياه. كان يمكنه من بيته أن يرى تدحرج الكرة فيخرج مزمجراً معلناً عن وجوده في المكان. فتبقى الكرة هناك دون أن يتجرأ أحد على إخراجها من المكان، يبقى حارساً إياها. يقف…يحدق فيها كتحديقه في قنبلة. ولا يتجرأ على لمسها.

7

كان “الحارس” يستخدم أسلوب التدريب ذاته. يحوّل عقابه على عصيان الأوامر أو عدم تنفيذها أو العجز عن ذلك إلى عقاب نفسي إلى جسدي. لم تكن تأخذه الرأفة اتجاه جنديه المثالي، كل شيء يتركز في الحركات، في الملامح التي يرسمها في قلبه. يشاهد طيف أمه في عينيه، فيحاول مسحه. تمر صور الحرب والخوف والرعب والجنود الذين لا يملؤون حتى بدلهم يغوطون أنفسهم. فيقسو على جنديْه، وليده، الحارس الجديد أكثر وأكثر.

لم يكن يسمح لأحد بالاقتراب من وليده. إلا بإذنه. لذا لم يتلق تعليماً غير تعليمه قبل أن يصل التاسعة ، وزاد فقدانه له بعد أن أُجبِرَ على التقاعد – فقد وصل إلى القائد بأنه قد قتل أحد أبناء عمومته تنفيذاً للأوامر، عرف القائد مدى خطورته فلم يقربه منه أكثر ولم يجعله يبتعد. وكان ذلك وقت تخلى فيه القائد عن بدلته العسكرية وارتدى عباءة القبيلة، أخبره أنّه عليه أن يترك الجيش إلا عندما يقوم هو بطلبه-، كما أن القرار الذي اتخذه رغماً عنه في تمكينه من الالتحاق بالمدرسة على مضضٍ بعد ضغط من والده جعله ينفلت أكثر من عقاله. كان وليده متأخراً في الدراسة، لم يخرج قبل ذلك من البيت إلا إلى بيت جده والآن ينفتح الشارع أمامه. حاول الأطفال أن يجعلوه يشاركهم اللعب إلا أنه كان متمنعاً ضد هياجانهم، لم يكن يهمه سوى الدراسة، في المدرسة يجلس وحيداً وبعيداً في آخر صف كشبح، لا يحادث أحداً. ينهي حصصه ويعود للبيت لبدء حصصه التالية. درجاته الدراسية كانت أعلى من الآخرين دائماً. عزى الأطفال لكونه يسبقهم عمراً، فأكبر زملاءه كان يصغره بعاميْن.

لم يكن يسمح لأحد بالاقتراب من وليده. إلا بإذنه. لذا…كان شرساً، مخيفاً، وغريباً.

كان البيت الذي يلتصق بالشاحنة الحمراء لغزاً يحيّر كل من في الحيْ. النباح والصياح العسكري الذي يعلو داخله كانا وحدهما ما ينبع من عتباته سوى الكرات الهاربة. حادثة واحدة جعلت البيت يتكشف قليلاً لأهل الحيْ. استيقظوا ذات صباح على صياح أحدهم يبكي ويتسنجد الناس لإنقاذه. تتبع الناس الصوت فقادهم إلى بيت “الحارس”. تسلق الفتى الذي اعتاد دائماً أن يتسلق السور لينقذ الكرة من مخالب الوحش فوجد رجلاً يجلس القرفصاء في الباحة أمام البيت. كان الذئب يقف أمامه دون أن يمكنه من الحراك، كان الرجل لصاً قد غرته نفسه بعد أن سمع بأن البيت ينساه أصحابه لأيام، فأغوته لسرقته. لم يكن الرجل قد أٌذِيَ. كان الوحش لا يقوم بأية حركات هجومية دون إذن “الحارس”، لكن لم يتمكن أحد من انقاذ اللص المقرفص أمام الوحش. بقي هكذا، لثلاث أيام حتى عاد صاحبه ليعاقب اللص عقاباً وخيماً. كان الوحش بلونه البُني وعينيه السوداويْن…يثير الرغبة في التبول.

8

لكن كل ما حدث في الشارع وفي المعسكر لم يثنِ “الحارس” عن متابعة هدفه، كان يؤمن أنه إذا نجح في هذه المحاولة سيكون قد أثبت جدارته للقائد. تقدم مرةً أخرى نحو الممر المؤدي للجِنان واستدرك الأمر الذي تلقاه:

– اعدمه.

ولج بيت الوحش. وجده يرقد مرتاحاً واضعاً رأسه على مقدمتيْه بعد وجبة دجاج جيدة تقديراً لما أظهره في التمارين. كان الوحش دائماً ما يتغلب عليه في التمارين الجسدية. تذاكر تمرين الصباح. العصا تضربه واليد تربت على الوحش. الوليد والوليد. اشتم الوليد رائحة الدخيل فكشر عن أنيابه، تفرس الانسان الذي أمامه. مد الوليد يده للأغلال التي تربط الوحش. مرر أصابعه على رأسه، شعر بالألفة اتجاهه. وضع يده تحت فمه فأخرج لسانه. كان الاثنان لأول مرة يلعبان في حياتهما. لعق الوليد وجه الدخيل. وربت الوليد على رأس الوحش. مسح على رقبته حيث فروه يتكثف. بدى الوحش سعيداً. مدّ يده ناحية مربطه وفك القفل وأمسك السلسلة وأخرجه من بيته فازدادت قبضته تحكماً به وواتته رغبة في أن يطلق سراحه ففعل؛ جرى الوحش في الجِنان يلعب ثم عاد مجدداً، كانت هناك كرة قدم رماها الأطفال دون العودة لها مجدداً. تقدم نحوها وركلها ليجري الوحش وراءها، انتشى. امتزجا معاً. كأنهما شخصٌ واحد أو وحش واحد. احتضنه ونزع عنه الوثاق الذي يشد سلسلته فشعر الوحش بحرية لم يعتدها من قبل. لم يكن صاحبه لينزع عنه الوثاق رغم نزعه للسلسلة. تحركا نحو الباب الحديدي، في يده الكرة وحول جسده يدور الوحش. الشارع الذي لا تجوبه الكلاب. خرجا ليحتضناه وليتحررا من الرجل الذي يقودهما بأوامره الاستعبادية.

كانت تلك الحادثة تبدو كأنها مسرحية مفتعلة.

9

ولجوا صدره. أخيراً. لم يتمكن أحد قبلهم أن يلج صدره، في المعسكر تعرفوا عليه واكتشفوا قدرته الجسدية. تمكنوا من الوصول إليْه بعد أن عرفوا قصته. كان والده أحد الضباط المقربين للقائد، “الحارس” كانوا يطلقون عليه. تربى في حياته في البدء بين معسكر البيت والمدرسة. تقدمت به الحياة بعد ذلك ليتربى في المسجد ثم ليعود لمعسكر الوطن مرةً أخرى تنفيذاً لأوامر والده. كان يتملكه الوحش داخله، يمسك بقلبه كأنه طوقه. قرروا أن يدخلوه لجماعتهم. وقرروا أن ينفذوا عملية الحرية ضد الرجل الذي يقودهم بأوامره إلى العبودية.

كانت تلك الحادثة أيضاً تبدو كأنها مسرحية مفتعلة.

10

وجدا الفتى الذي اعتاد على أن يقفز البيت، رآهما فانخض قلبه، رمى الكرة نحوه فتدجرجت تحت قدميه ليتجمد، كان يرى الوحش والوحش يحدقان فيه بتلهف، كانت الكرة لازالت تربت تحته، نزل من ساقيْه سائلٌ أصفر، شعر بحرارة جسده فتحركت قدماه؛لحقاه. حاول الفتى أن يهرب لما رأى لأول مرة الوحش يقوده الوحش. ابتسم الفتى وكشر الوحش عن أسنانه يعتقد أنه يلعب. ” انتشله” قال. جرى الفتى ولم يجد سوى الشاحنة الحمراء يحتمي بها، ركب فوق صندوق القيادة لكن الوحش استطاع القفز. مزق ساقه فصرخ فسقطت بعض من قطرات قدمه على ورق الخروع. سرت لذة في جسد الوليد. استمتع باللعب، كان الفتى يبكي مستنجداً الناس، ولأن الشارع كان صغيراً وسكانه قلائل سرت الحمى بسرعة داخله. جرى هو والوحش في نواحي الشارع ليدخل البيوت ويطارد ساكنيها. ” أمسك ذلك”. ” طارد المرأة”. ” حاصره”. ” مزق قدمها”. يلقي بالأوامر والناس تصيح وتصرخ والحمى تسرع. الوحش يخرج سعيره. وهو يقهقه. الهلع الهلع. دخل بيتاً فأقفل الناس غرفهم فيه. طارد أناساً آخرين لبيوت ناس آخرين. انتهكا أسرار كل البيوت التي حاولت انتهاك أسرار بيتهم. لساعة كاملة ظل السعار يحوم في الشارع. ” تبول هنا”. ” تبرز هناك”. ” عضه”. المطاردة التي تبدو كمسرحية ظلت تسوق أهل الشارع. بعضهم تسلق النخيل. بعضهم أغلق على نفسه. بعضهم لم يغادر سيارته. النساء يخرجن سافرات إلى الشارع. الأطفال يبكون خوفاً ويختبئون في خزانات الملابس أو تحت الأسرة وفي فصول المدرسة التي وصلت إليها المطاردة. الرجال يبحثون عن أسلحة أو هراوات لتوقف المطاردة الهوجاء وهو يستمتع بالمشاهد التي يرسمها الوحش في وجوه الناس وأجسادهم. أصيب عشرة بجروحٍ مختلفة في أجسادهم حتى جاء أمر ما في الهواء:

– حارس. توقف.

يتوقف الوحش. يتوقف الصياح والعويل والهلع. يتوقف المشهد.

– اعدمه.

– اتركه لله.

جاءته الأوامر من كل السلطات المحيطة به.

11

احتضن بندقيته. استعاد رباطة جأشه. ربت أحد الرفاق على كتفه. سنوات منذ أن أحضروه في جنبات الله والآن قد استعد لملاقاته. كل ما تلعمه ينصب في هذا اليوم حتى تمرينات وتدريبات والده. الامتحان الحقيقي لسنوات طويلة من التدريب. الانضباط. إطاعة الأوامر. تذكر ذلك اليوم الذي عُنِّف فيه. لما رآه يصطحب صديقا له إلى غرفته لما انهارت سلطته وخرّت أحلامه وطموحاته في صنع الجندي المثالي. كانا لا يتعديان العشرين من العمر. صديقه صاحب اللحية الشعتاء والشارب الحليق. جلابية بيضاء تعلو كعبيْه بإصبعين ملتصقين في وضع جانبي. أمره بعد أن ودع صديقه” هذه آخر مرة أراك تصاحب هؤلاء !”. نفذ الأوامر، كان ذلك الزمن زمن كراهية الكلاب الضالة والكلاب الأخر، ولم يسمح أبداً أن تجوب الكلاب المكان. بعد ذلك بأيام قال له ” ستذهب للعسكرية. حضر نفسك!”. كان يطيع أوامره.

يمسك بالوحش، يدغدغ فروه. دم بشري يقطر من أسنانه.

يطقطق أصابعه على البندقية، السبابة، الأوسط، السبابة فالأوسط. ” الآن…حان الوقت”. ركب الشاحنة، كانت تشبه الشاحنة الحمراء التي تركن أمام بيتهم. بحث عن شجرة خروع ملتصقة بها ولم يجدها. كانت الشاحنة تسير في ظل الغروب حمراء فاقع لونها رغم بياض طلاءها. أخذت الطريق تنسكب في الأفق أمامهم حتى وصلوا إلى مبتغاهم. حيث سينفذون الأوامر التي ألقيت على مسامعهم. انفرطوا عند وصلوهم لمكانهم كثمار الخروع. حفل يحضره أحد رفاق القائد الأحرار، وحش آخر قتل من إخوانهم الكثيرين. انطلق الرصاص يتوجه في كل مكان أرادوه. سقط أحدهم. وسقط أحد آخر من الجهة المقابلة. النار بالنار، وجه بندقيته في الهدف الرئيس. كاد أن يرديه أرضاً لولا احتشاد حراسه حوله وإصابة أحدهم. تذكر والده…بشدة. صاح أحدهم بشعار الله وولت الشاحنة تحملهم تنطلق في الطريق تجري خلفها سيارات الدفع الرباعي. وهو يجلس في الصندوق الخلفي يفكر في والده. كيف كان يطيع الأوامر. كيف استطاع هو إطاعته. لم تدمع عيناه القاسيتان. مضت المطاردة لساعات حتى تمكنوا منهم. عرفوهم واحداً واحداً. سمع صوتاً يوجه البندقية نحوه:

– يا حارس. توقف.

12

في الحرب تذكر “الحارس” آخر العمليات التي جعلته يتقهقهر لأول مرة. الجنود ينفرطون من الميدان كثمار الخروع بعضهم قتلى، أصيب في ذراعه لكنه ظل يقاتل حتى آخر اللحظات في كل اتجاه يقاتل العدو ويقاتل الهاربين من أرض المعركة، وجه جنده عند نقصان عددهم المتزايد في النهاية السلاح نحوه وأمروه ” فلنعد سيدي..”. صاح ” أيها الخونة، سأعمل على إعدامكم جميعاً”. قام صديقه الذي يشاركه الحرب بتوجيه رصاصة أدركت ذراعه الأخرى فانهارت قواه لما صار ككيس ماء مثقوب يخرج منه الدم من جميع الجهات. نجا بأعجوبة، جرجر صديقه جسده طيلة الطريق كان يستيقظ ليسمعه يقول له ” اعتذر ولكن كنا سنموت للاشيء!”

– اعدمه.

– اتركه لله.

أمروه. لذلك، أخذ بندقيته التي وضعها على الحائط تحت صورته ووليده، مرت لحظات طفولته معه كان يلعب على ساعده الذي يشعر بضعفه الآن. لحظات تلألئ عينيه في قلبه. لحظات طفولة الكائنات جميعها حيث تفطر القلب، يغذيه. مداعبة الوليد لإصابته. تدريبه له وتحويله لوحش لا يعرفه ولا يعرف منه إلا الأوامر. يخرج إلى الجنان، كان هناك. ينتظره. صوّب بندقيته لرأسه، الجمع ينتظرون. كأنه مرةبذات المشهد ذات يوم. متى كان ذلك؟ يستعد لتنفيذ الأوامر. ” استعد” أمره فاستعَد. ألصق البندقية لفروة رأسه، بنيته التي شكلها، التشابه العميق بينهما رغم كل الاختلاف، الجمع يتحلقون حوله. إنه ابنه أو يكاد يكون كذلك. يطلق رصاصته. دم يخرج من فروة الرأس. تربت يد صديقه- الذي خذله في الحرب، الذي أهداه، الذي لطالما سكر معه، الذي يأتي إليْه به الآن على كتفه -ويقول له:

– كلب ومات.

__________

– محمد النعاس كاتب من ليبيا. يمكن الاطلاع على المزيد من اعماله عبر مدونته: خارج التغطية