13

"يجب على قادة الحكومة والمعارضة، في النظام الديمقراطي، قبول شرعية بعضهما"

في الحلقة الماضية استعرضنا بعض المؤسسات المكونة للديمقراطية، كما نعيها نحن في الغرب. ولكنني لم اعرج بعد لنقطة اساسية وهي اننا في الديمقراطية نقبل بان نحكم من قبل اشخاص لا نحبهم.

يرفض الكثيرون في مصر اليوم، القبول بنتائج الانتخابات الاخيرة. لذا تدخل الجيش، وذلك للحفاظ على النظام العام ظاهرياً، ولكن واقعياً لفرض شكل من الفوضى التي تتدرب الجيوش للتعامل معها – وهي فوضى ساحة القتال. ولكن لما حدث ذلك، هو ما سأعود لمناقشته في الجزء القادم. إلا أننا يجب أن نفترض بأن الشعب المصري لا يختلف عنا جميعاً عندما يتعلق الامر بممارسة ضبط النفس الصعب في حالة تم حكمنا من قبل اشخاص لا نحبهم. اعلم بحكم خبرتي كم هو صعب هذا النوع من الانضباط. فقد كان والدي مؤيد مخلص لحزب العمال البريطاني. لقد كان يؤمن بأن جميع السياسيين من حزب المحافظين هم ممثلين فاسدين للطبقة القامعة الحاكمة، وأن المؤسسة الانجليزية بالكامل – من كنيسة انجلترا، مجلس اللوردات، الملكية، النبلاء، الجامعات العريقة، الصناعيين والممولين، لك ان تسمى من شئت – هم جزء من نظام للاستغلال، تم اقامته لصالح الاقلية على حساب الاكثرية. واعتقد ان تلك كانت وجهة النظر المشتركة لمؤيدي حزب العمال في ذلك الزمن، ولم يبذل حزب العمال اي جهد لدحضها.

وكنتيجة لذلك كان والدي يكره فعلياً حزب المحافظين وجميع من يمثله من اعضاء في البرلمان. ولم نستطع من تخفيف حدة غضبه عندما يقوم حزب المحافظين بإرتكاب خطأ فوزه بالانتخابات، أو عندما تقر حكومة المحافظين قانوناً ما اعتبره مضراً بمصالح اتحادات العمال او الطبقة العاملة. وكان من غير الممكن الاقتراب منه خلال عدة ايام في حالة حدوث اي من هذه الاشياء او الاحداث. غير انه قبل بالنتيجة، قبل شرعيتها، قبل أن ليس لديه اي وسيلة سوى العمل على إلغاء تلك القوانين التي اثارت حفيظته.

لقد مررت بنوع مشابه لغضب والدي المعتاد عندما قررت حكومة توني بلير العمالية، وفي تحد للمعارضة الضخمة من قبل اناس عاديين يعيشون في الريف الانجليزي، بحظر طرقنا التقليدية في صيد الثعالب.

لقد اعتبرت هذا النوع من القوانين الجديدة، التي تستهدف الأقلية، مدفوعة بمشاعر لا يجب أن يكون لها مكان في البرلمان. لقد اثر بي هذا القانون لأن الصيد جزء من حياتي، وحياة جيراني القرويين. غير أنه كان علي أن ابتلع خيبتي على مضض، وان اعترف بأن القانون كان شرعياً. بإمكاني العمل على إلغائه، غير أنني مرتبط بمسؤوليتي كمواطن بالامتثال له. لقد كان القبول بهذا القانون جزءاً من العبء الذي عانيته وغيري من الطبقة المحافظة خلال 13 عاماً من حكومة العمال، وهو عبء ان تحكم من قبل اشخاص تختلف معهم، وبعضهم تكرهه فعلياً.

اعتقد أن الناس لا يعون كما يجب، أن قبول الاوامر من اولئك الذين لا نتفق معهم مخالف للطبيعة البشرية،. لقد رأي الكثيرون أن احداث الربيع العربي تشمل حركة شعبية للديمقراطية في مواجهة حكومة استبدادية (اوتوقراطية)، وذلك صائب تقريباً. غير أن هناك شيء واحد اكثر وضوحاً، وخاصة في تونس وليبيا ومصر، وهو ظهور حكومات منتخبة ديمقراطياً لا تمتلك الوقت الكافي للأخذ بآراء غير آرائها.

إن حكوماتنا في الديمقراطيات الغربية على وعي أن الكثيرين، وربما الاغلبية، لم تنتخبهم، ولهذا يجب عليها ان تكون اكثر قبولاً من قبل معارضيها.

غير انه بالنظر للتصريحات الاخيرة لرئيس مصر المنتخب، والمخلوع حديثاً، (محمد مرسي) فإننا سنجد القليل إن لم يكن لا شيء يشير إلى استيعابه أن هناك مصريين لا يتفقون معه، وهم الذين يجب عليه الحصول على قبولهم بشكل متواصل. فمن المستحيل الاستنتاج من خطاباته أن هناك اقلية مهمة من المواطنين المصريين من المسيحيين، أو الملحدين، أو من الذين يتبعون طريقة الحياة المسلمة، إلا أنهم يفضلون أن لا تكون دينا للدولة.

فمن وجهة نظره (مرسي) فإن الانتخابات منحته الحق المطلق لفرض اجندة الحزب الحاكم، وأن المعارضين قد خسروا جميع الحقوق في أن تكون لهم اجندتهم الخاصة. فكان أن رد الجيش بالقول، هذا غير صحيح – نحن الوحيدين الذين نملك الحق في فرض اجندتنا، نحن الذين نمثل مصالح جميع المصريين وليس فقط تلك الخاصة بالاخوان المسلمين، وأن اضطرارنا في الواقع لقتل بعض المصريين لإثبات أننا نمثلهم هي احد الاشياء التي تحدث عرضاً.

إن المعارضة في نظامنا الديمقراطي الغربي هي جزء شرعي من العملية التشريعية. فالقوانين بالكاد تمر بسهولة من خلال البرلمان بدون الاخذ في الاعتبار الخلافات، وأن الفرضية العامة أن المحصلة النهائية هي نتيجة للتسويات، وهي محاولة لتوافق المصالح المتضاربة المتعددة. إن فكرة أن التشريع كتسوية غير مألوفة. فالنظام الطبيعي هو ما تم التعبير عنه في العهد القديم (التوراة)، وهو أن الملوك يحكمون باصدار المراسيم، قد يستعينوا بالمشورة، إلا أنهم لا يسمحون لصوت مصلحة ما ليعلوا غير صوتهم.

بالطبع هناك مسائل في الحياة الانسانية حيث تكون التسوية فيها اما مكروهة او محرمة. فلا يمكن التسوية مع عدوك في ساحة القتال. كما لا يمكنك التسوية مع الشيطان من الناحية الدينية. وحينما يتدخل الدين في السياسة فإن العملية السياسية تتعرض لخطر كبير. هذا هو السبب، في التاريخ المصري الحديث، وراء محاولة الرؤوساء المتعاقبين منع الاخوان المسلمين من الوصول إلى السلطة. فالاخوان يؤمنون بأن الشريعة والسياسة ليسا محلاً للتسوية ولكن فقط لاتباع مشيئة الله.

لقد مزقت الحرب الاهلية انجلترا في القرن السابع عشر، وفي وسط تلك الحرب الاهلية كان يكمن الدين – فرغبة الطهرانيين لفرض الحكم الالهي على شعب بريطانيا العظمى بغض النظر عن رغبتهم، واقتراب الملوك من عائلة الستيورت الملكية لمعتقد كاثوليكي صار مبغضاً بشدة من قبل الاغلبية ووسيلة للتدخل الاجنبي المرفوض ساهمت في تأجيج الكراهية. وفي الحرب الاهلية يتصرف طرفي النزاع بشكل سيء، وذلك تحديداً لأن روح التسوية قد خرجت من المشهد. فالحل ليس فرض مجموعة من الاحكام الجديدة من قمة هرم السلطة ولكن توفير مساحة للمعارضة، وسياسة التسوية. وهو ما تم الاعتراف به في الثورة المجيدة (ثورة سلمية للبرلمانيين الانجليز نزعت العديد من سلطات الملك) في العام 1688، عندما اعيد اقامة البرلمان كمؤسسة عليا للتشريع، وتأكيد سلطة حقوق الشعب في مواجهة السلطة السيادية في العام 1689 في وثيقة الحقوق الانجليزية.

وهذا ما يثير لدي اكثر الاسئلة اهمية فيما يتعلق بالشرق الأوسط اليوم، وهو كيف تتم الموائمة بين الطاعة الدينية وحكم القانون العلماني. هذا السؤال نوقش بواسطة الكنيسة المبكرة، كما اثاره يسوع المسيح نفسه، في مثاله حول اموال الجزية المدفوعة للحاكم الروماني. في ذلك المثل دعانا يسوع المسيح لاعطاء "ما لقيصر لقيصر وما لله لله". وبعبارة اخرى، اطاعة القيصر عندما نتعامل مع الشؤون العادية للحكومة، في حين نستمر في الامتثال لتعاليم الدين في حياتنا الشخصية. ففرضيته كانت انه بامكاننا موائمة الطاعتين معاً، حيث ان تعاليم الدين سهلة وواضحة، فهناك اثنين فقط، وهما ان تحب الله مخلصاً وان تحب جارك كحبك لنفسك. لقد افترض يسوع بشكل صحيح أن هاذين التعليمين لن يعرضا للخطر المطالب الشرعية للحكومة، وأن هذا الافتراض كان في صلب خطاب الكنيسة المبكرة.

بالطبع، هناك تاريخ طويل من الصراع في اوروبا بين البابا والامبراطور، وبين التعصب الديني والقانون العلماني. غير أنه من الانصاف القول بأنه مع نهاية القرن السابع عشر، وبينما كان التنوير ينشر تأثيره في كافة ارجاء حضارتنا الغربية، فقد بدأ يتم تقبل أننا ندير شؤوننا في هذه الدنيا بواسطة قوانينا، وأن هذه القوانين، مصنوعة بشرياً، أي علمانية، ولو امكن محايدة عندما يتعلق الامر بالاديان المتعددة المتنافسة داخل الدولة. وعند حدوث اي تضارب واضح بين القانون العلماني والطاعة الدينية، فقد صار من المسلم به في مجتمعنا أن الغلبة تكون للقانون العلماني. لقد كان من المتأمل، أن هاتين المساحتين من المسؤولية، المقدس والعلماني، منفصلتين بشكل كافٍ، حتى انه لا يكون هناك بأي حال إلا القليل او لا تداخل بينهما. وبعبارة مباشرة، لقد اصبح الدين في مجتمعنا شأناً خاصاً، حيث لا يطرح بشكل عام اي مطالب في الحياة العامة.

إن خصخصة الدين لم تحدث في جميع انحاء العالم الحديث، وبالتأكيد ليس في العالم المسلم. بإمكاننا اليوم متابعة تركيا وهي تدفع إلى حافة اضطرابات اهلية بواسطة رئيس وزراء اسلامي في حالة تمرد ضد الدولة العلمانية. نتابع مصر، حيث يتدخل الجيش لخلع رئيس يرغب في حكم مصر بقانون اسلامي. نتابع صراعاً واسع النطاق في المنطقة بين الرؤية السنية والشيعية للدين، والذي يمزق سوريا الآن. وخلال الشرق الاوسط كله نرى إن حرية التعبير والتجمع والدين في حالة هجوم. لماذا يحدث هذا، وما الذي علينا أن نفعل تجاهه؟ هذا ما سأتناوله في الجزء القادم.

________

·       روجر سكروتون (1944): فيلسوف بريطاني.

·       نشرت هذه المقالة على موقع هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) وهي الجزء الثاني من اربع مقالات حول المسألة الديمقراطية من خلال الاحداث العالمية الراهنة وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا.

* للاطلاع على الجزء الأول (روجر سكروتون: هل الديمقراطية مبالغ في اهميتها؟ (1/4)