لعلها المرة اﻻولى التي اجدني اخوض في مسألة قلما وجدتني اركز التفكير فيها، لأنني ﻻ استسيغ كثيرا مناقشة مسألة الهوية التي ماتزال تثير الحساسية لدى البعض والتي ادعي انني وصلت فيها إلى الكثير من السلام مع نفسي ومع اﻻخرين المختلفين والمتشابهين من حولي.
 
ولعل ما استفزني للكتابة في هذه القضية هو الجدل المحتدم في اﻻوساط السياسية الليبية حول كيفية ضمان حقوق اﻻقليات في ليبيا بعد التغيير والتي من ضمنها حقوق اﻻمازيغ والتي تم على ما يبدو حصرها في محدد ثقافي واحد وهو اللغة بتمظهراتها المتعددة وتطوراتها الحديثة.

ولكن اكثر ما اثارني هو محاولة مجموعة او مجموعات تنتمي لعرقية ثقافية متنوعة، تمثيل اﻻمازيغ ومطالبهم وتطلعاتهم من خلال منظمات اهلية تمارس العمل السياسي من خلال مؤسسات المجتمع المدني التي ازدهر سوقها بعد التغيير وصارت احد محددات النقاش السياسي واﻻجتماعي في ليبيا.

ومن خلال متابعتي للتطور المذهل لاعادة اكتشاف وانتاج الهوية والثقافة اﻻمازيغية في ليبيا خلال العامين الماضيين اثار قلقي ان المسألة اﻻمازيغية ما تزال تدار من قبل مجموعة، كانت وﻻ تزال تحجم اهمية المسألة الثقافية اﻻمازيغية في اعادة انتاج الهوية الوطنية، وتوطيد دعائم دولة المواطنة الحاضنة للجميع مقابل الدولة الوطنية التي تسعى لاذابة الهوية في قالب واحد، لا يوفر العدالة والمساواة من خلال العقد اﻻجتماعي المواطني.

القضية اﻻمازيغية صارت شعارا سياسيا يرفع من قبل البعض لتحقيق المزيد من المكاسب السياسية في مجتمعاتها المحلية، وممارسة الوصاية اﻻجتماعية التي تهدف إلى تكريس اﻻنعزال واﻻنكفاء على الثقافة والتمييز المضاد بحجة استضعاف اﻻقلية من قبل اﻻغلبية.

وأنا من جهتي ارفض تصنيفي في خانة الاقلية، والتي تعني حالة من الاستضعاف في ثقافتنا ومجتمعنا، الذي ما تزال فكرة التعددية الثقافية والفكرية، وحقوق المواطنة لم تتبلور فيه بعد. ان تصنيفي كمنتمٍ "لأقلية" هو محاولة لاستضعافي وتغليب حالة الانكفاء والانعزال والاضطهاد من خلال ممارسة التمييز المضاد، والتي لم ولا اعاني منها بأي حال من الاحوال. ففي حالتي الشخصية مازلت اعتبر محدد الامازيغية جانباً من جوانب الاستقواء والاثراء في تكويني الذهني يتفاعل ويتناغم مع باقي محددات الهوية التي ادعي امتلاكي لها ضمن الثقافة التي تكون هويتي الذاتية.

ان حصر المسألة الامازيغية في "حق دسترة اللغة اﻻمازيغية" هو في احسن اﻻحوال تسطيح لهذه الهوية الثرية وفي اسوأها تكريس لانعزالية شريحة من اﻻمازيغ الليبيين الذين مازالوا يتعاملون مع اﻻخر "غير اﻻمازيغي" بشيء من الريبة وعدم الثقة وعقد اﻻضطهاد غير المبررة في اكثر اﻻحيان.

ان حصر الثقافة والهوية اﻻمازيغية الليبية في محدد اللغة (والتي ما يزال يعاد تكوينها وبناؤها) هو ظلم صريح واستغلال سياسي لهذه الثقافة التي منحت للهوية الليبية الجمعية العديد من محدداتها ابتدأ من الشكل واللباس، مرورا باطباق الطعام وانتهاء باللهجة واللسان الليبي المتميز.

ويكاد يساورني شعور بأن من يدفعون لتسطيح وتحجيم الهوية اﻻمازيغية في اللغة هم في الواقع يدفعون في اتجاه تكريس فلسفتهم واتجاههم الفكري الذي عاش في الاحياء والقرى والواحات المنعزلة والتي ﻻ تختلف عن اﻻحياء والقرى والمدن اﻻخرى في ليبيا في تساويها في حجم المصائب والخراب، مثل تشابهها في التضاريس والمناخ والاكل واللباس وربما عادات وتقاليد اخرى، لتبقى اللغة الملجأ الوحيد لتكريس اﻻختلاف ومن ثم ادعاء الحق في تكريس العزلة والتمييز المضاد.

كنت ومازلت ارى ان اﻻمازيغية ليست مجرد ثقافة صغيرة يتم حصرها في رابطة الدم او الحمض النووي من خلال ادعاءات نقاء العرق الوهمية، او من خلال لغة كانت حتى وقت قريب ﻻ يجيد حتى ابناء العرقية الواحدة منهم لهجاتها المتنوعة، ولم يعرف اﻻ القلة منهم شكل الحرف الذي ستكتب به، بل ان اﻻمازيغية التي نشأت عليها في بيتنا هي هوية جامعة لكل ابناء الوطن، تلك التي تحمل على عاتقها مسؤولية الحفاظ على الهوية الليبية التي تعرضت للتفتيت والتهديم خلال عقود من التخلف والغوغائية، تلك الهوية الليبية التي تحمل تاريخ وثقافة وتنوع هذه القطعة من الارض التي شهدت مرور ما لا يعد من الثقافات والحضارات والجماعات البشرية وظل اﻻمازيغ كجبالهم شهودا على قدرة هذه البلاد للاستمرار والبقاء.

فسواء تم اعتماد اللغة اﻻمازيغية، لغة رسمية لليبيا ام ﻻ فإن ما سيكون اكثر حيوية وجدوى هو مدى قدرتنا كامازيغ في داخل ليبيا من تحقيق التنمية في مناطقنا والاسهام في بناء البلاد من خلال كسر حالة اﻻنعزال وتحقيق مفهوم المواطنة الجامعة لكافة الهويات العرقية، والعقائدية والفكرية، لا ان نرفع شعارات بعضها تم اختراعه خلال عقود قليلة ماضية في عزلة عن تجربتنا المحلية، بينما تعاني مناطقنا من انعدام التنمية والبنية التحتية الاقتصادية والحضارية.