نص: جمعة بوكليب 

هذه المرة، حين نلتقي، حول فنجان قهوة، في منطقة ما من مناطق لندن، لتبادل الحديث سوف نكون، للمرة الأولى، في وضعين مختلفين عما تعودنا عليه. للمرة الاولى، سوف أسعى إلى لقائك تاركاً خوفي منك في البيت في حين انك،ربما، سوف تأتي إلى لقائي حاملا خوفك مني معك.

 ما أغرب الدنيا!

 هذه المرة، حين يحين الموعد، سوف أتهيأ للقائك. سأرتدي ثيابي،قطعةً قطعةً، على مهل، وأغادر، بلا توجس، دفء بيتي، وأمشي في الشارع، بخطوات واثقة ومطمئنة، نحو محطة القطار القريبة. في المحطة، سوف أشتري جريدة،  وأضعها تحت إبطي، وأتجه نحو الرصيف المعد لوقوف القطار. سوف أنتظر القطار غير مبال بشيء، وحين أسمع هديره  وهو يدخل المحطة مقترباً مني، سوف أتهيأ لصعوده. وحين يقف، أخيراً، ويفتح أبوابه، سوف أصعده بخطوات وأثقة، وأجلس على مقعد ، وأفرد الصحيفة لاقرأ ما نشرته من أخبار حولك، ولأعرف آخر ما تم رفعه ضدك من قضايا بمختلف المحاكم في مختلف العواصم .


من كان يصدق أننا – ذات نهار لندني مغيم وقد يكون ممطراً وبارداً – سوف نلتقي كمنفيين؟

من كان يصدق أننا، بعد عقود أربع من العداء الواضح والصريح في الوطن الذي حرمتني منه، سوف نلتقي معاً، ونجلس، معا، في مقهى لندني كليبيين، غريبين عن وطنهما، يحتسيان قهوتيهما، ويدردشان بهدوء. حول الدنيا وأحوالها،  وقد يستذكران ما كان من أمرها؟

هذه المرة، لن أغصّ بالكلام ، كما في السابق، في حلقي من شدة رعبي منك. هذه المرة، وعلى عكس لقاءات الماضي التي أنك مازلت تذكرها مثلي، سأكون أنا الباديء بالكلام. سترى أمامك رجلاً آخر فصيحا ومرحا ويتسم بالظرافة.

هذه المرة، وعلى عكس اللقاءات السابقة التي اعتقد أنك، مثلي، مازلت تذكرها، سوف تكون أنت ضيفي. وستحضر إلى لقائي دون أرسل إليك (طلب حضور!).  لم أتخيل حتى في أشد أحلامي سوريالية أنني سأكون مضيفا للغول الذي  أرعبني في شطر هائل من حياتي؟

 من كان يتخيل أنني سوف أجلس إلى جانبك وأنا على علم بأنه لم يعد بمقدورك أن تخيفني كما كنت تفعل في الماضي القريب؟

سوف أجلس على كرسي في المقهى الموعود في انتظارك، أحتسي قهوة مرة، ومتظاهرا بقراءة صحيفة قرأتها عدة مرات وعيناي على المدخل. من المهم جدا لي أن أراك تدخل المقهى ولا تراني. أحب أن أرى نظرة في عينيك فيها شي ء من خوف أو تردد أو قلق. أحب أن أراك، دون علمك، ترسل نظراتك ، من فوق ، في الانحاء بحثا عني . سأراقب، من حيث أجلس، قامتك فارعة الطول . ما يهمني حقيقة هو أن اقرأ ما كتب المنفى على جبينك.   ولأعرف كيف وجدت العيش مطارداً وأنت الذي كنت تطاردنا ، ككلب صيد ، أو كموتور، في كل أنحاء الدنيا؟ هل ياترى سأشفق على كهولتك ؟  وهل ســـــاناديك باسمك الأول – موسى – “حاف” دون ألقاب؟  ترى كيف ستشعر حين تراني جالساً على كرسي في مقهى في انتظارك وعلى شفتيّ تضيء ابتسامة؟ هل ستبتسم وتسر لرؤيتي وتحيييني بتلويحة من يدك ؟ أم  أنك ستشعر بشيء من مرارة ، لأننا ، على عكس كل لقاءاتنا السابقة ، هذه المرة، سوف نلتقي كندين وكمنفيين وغريبين وكضحيتين لنفس الرجل الذي وهبت كل عمرك لخدمته وتقبيل يديه الدمويتين كيديك ثم تخليت عنه حين كان في أمسّ الحاجة إليك؟ هل كنت أنت من |أقترف جريمة الخيانة أم كان هو من خانك ؟ سوف أتمنى، تلك اللحظة،  لو أن لي القدرة على قراءة ما في يدور في عقلك ؟ عفوا لم أقل قلبك لأني أعرف، تماماً، ان أمثالك بلا قلوب، ولذلك كنت وأمثالك تحرقون وتأكلون قلوب من كنتم تسمونهم أعداءكم!!

سوف أنهض من مقعدي لتراني، وتتجه نحوي. سأصافحك،  وأدعوك للجلوس، وأسألك إن كنت تفضل شراباً معيّنا لأني أعرف أنك تعاني من السكري وضغط الدم وربما، أخيراً، صرت تعاني من آلام الندم . أعرف، أيضاً، أن شفتيك سوف تنفرجان عن شيء أشبه بابتسامة، وستجلس، دون أن تنبس بكلمة، على كرسي يختلف، كلية، على الكراسي التي تعودت الجلوس عليها خلال العقود الاربعة الماضية. أنا أعرف ذلك وساتظاهر بالنسيان، لذلك، ساتولى أنا دفة الحديث. سوف أكون في كامل أدبي، وساوّجه الدفة نحو مناطق لا تثير ريبتك أنت الذي تعودت الريبة في كل شيء والشك في الجميع. ولكي أدخل شيء من الطمانينة عليك، سابدأ بالحديث على حالة الطقس، فقط لتذكيرك بأننا نعيش في لندن، المدينة التي تأوينا معاً، الآن، رغم أختلاف الأسباب

حين أنتهي من ذلك سوف أمنحك، عن طيب خاطر، الفرصة لتولي الدفة والسير بمركب الحديث إلى حيث تشاء،  آخذا في الاعتبار أنك لن تجرؤ على سؤالي كما كنت تفعل في الماضي عن علاقتي بفلان أو علان. أراهن أنك لن تتحدث عن الزمان وغرائبه، وبالتأكيد لا أتوقع من ( الشيخ ) أن يحكي عن النساء ! فهل ستفاجئني وتحكي لي عمن تعرفه عن قرب وأعرفه أنا عن بعد؟

من الأفضل لي ألا أستبق الأحداث، ومن الأفضل لك أن تترك الزمن يسير على وتيرته الجديدة بالنسبة لك، ومن الأفضل لنا ، معا، التفكير مسبقاً، وقبل اللقاء المرتقب ، قريباً،  في موضوع للحديث بيننا يختلف، كلية، عن توقعاتك وتوقعاتي.  المهم، بالنسبة لي، أن نبدأ ، معاً،  من جديد، ،تعلم الحديث لبعضنا، بروح مختلفة،  دون أن يبدر مني خوف أو يبدر منك شك ، كما كان يحدث في الماضي.
لندن2-3 ابريل 2011