في زمن صارت فيه الانتماءات الفكرية اهم من الانتماءات الوطنية والقبلية، مازال الليبي في متاهته، ضائعاً بين سؤال الانتماء واتخاذ المواقف. تبدأ مأساتك بسؤال التعارف البرئ، الذي لا يطعم الجائعين والمحرومين، “من أين أنت؟” من أين انت أيها الواقف امامي؟، من أين انت أيها المختفي وراء صورة وجهك واسمك الذي لا يدل على اصولك؟. سؤال يحمل في طياته تربصاً وتمترساً وتحفزاً لوضع الاحكام المسبقة واضفاء النمطيات الاجتماعية المثقلة بعقود من التقاتل والصراع على الغنائم.

تبدأ رحلة تيهك في لحظات الحياة الاولى ولا تنتهي باضفاء ألقاب تدل على مستواك التعليمي والثقافي، بل في كثير من الاحيان تزداد حدة الاسئلة التحجيمية، لتصبح انسان مجرد بلا معنى لوجودك الفردي، فإنت خلقت لكي تكون جزءاً من مجتمع وعلى المجتمع التضحية بك في محراب بقاء الفرد الجامع لخصائص المجتمع في شخصه الالهي، بينما تضيع انت في متاهة من تكون حقاً وإلى أين تريد أن تصل.

عندما ينكفئ الفرد على نفسه التي تم مسخها وتحطيمها، ينزوي بركن الانتماء القبلي وربما العائلي لتحقيق قدر من الاحترام الجماعي الذي قد تتمتع به جماعته المتماسكة برباط الدم وصلة القربى، ومن لا يجد نسباً شريفاً يحميه ويضفي عليه القداسة التي ينشدها، فإنه يشتري لنفسه نسباً وقداسة وشهادة معتمدة بنقاء دمه القبلي وممهورة باختام الولاء والطاعة.

في حديث عابر في متاهة الشبكة العنكبوتية، دار نقاش حول مسؤولية الافراد بالكشف عن هوياتهم الحقيقية إن كانوا يريدون المساهمة في محاربة الفساد وتحقيق الاصلاح، وخاصة أن الكثير منهم قد لا يخشى على نفسه انتقام الحكومة المستبدة، وفي محاولة لاضفاء بعض المصداقية على الشخصيات المعبرة عن تطلعاتها في تحقيق مجتمع حر وعادل.

نكتشف أن الرادع الذي يقف بين الافراد وممارسة حرية التعبير بوجوههم واسمائهم الحقيقية لم يكن الخوف من العقاب الفردي، بقدر ما كان الخوف من العقاب الجماعي الذي قد تنزله الحكومة على مجتمع العائلة أو القبيلة، والاسواء هو الخوف من عقاب القبيلة أو الجماعة الاسرية للفرد لتعريضه حياة المجتمع إلى العقاب والخصومة، وهو ما يستدعي تغليب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد المنتمي للجماعة حتى وإن استدعى ذلك أن تمارس هذه الجماعة دور الحكومة في قمع وتكميم الآراء وانزال العقوبات الاجتماعية الرادعة للفرد الخارج على سلطة الدولة. كما يتم تكريس الانتماء الاجتماعي المصغر، القبلي والعائلي، إلى اداة قامعة في يد السلطة الحاكمة لتحقيق المزيد من التحكم والسيطرة على الفرد بدرجة أساسية، والمجتمع بشكل عام، إلى جانب تحوله في مرحلة ما إلى وسيلة لخلق حالة من عدم الثقة بين الافراد غير المنتمين أو اولئك الذي ينتمون إلى فئات اجتماعية مختلفة أو متناحرة.

ويبقى السؤال التائه، “من أين أنت؟” وكأنه اختزال للفرد الطامح لاعادة انتاج هويته الذاتية من خلال تجربته الحياتية المتفردة والمتميزة والافكار التجريدية التي يتبناها بالمعايشة، ويتحول السؤال عن الاصل الوراثي إلى سؤال عن الماهية ليصبح، ما أنت؟. إنه محاولة لتحطيم خصوصيتنا كافراد مستقلين تجمعنا اهداف مجردة أو اتجاهات فكرية أو مصالح مشتركة ليس من بينها تطابق اجزاء من احماضنا النووية التي لم يختر أي منا وراثتها وتعبر عن وظائفية الحياة التي اجبرنا على الخوض في متاهاتها.

الليبي التائه، كما هو حال الكثير في المجتمعات العربية، يجد نفسه في حالة بحث عن هوية ترضي المحيطين به وتحقق حالة من الاستقرار الاجتماعي الذي يسعى له الانسان، وعندما يحاول التعبير عن استقلالية وخصوصية فردانية، ترفع في وجهه عصا غليظة تتوعده بالقمع الاجتماعي وتذكره بأن ارتباط الدم والوراثة أهم واقوى، بل إنها قد تسعى إلى ممارسة شرعيتها الاجتماعية بالاغتيال الرمزي المعنوي، بالتبروء منه وتقديم كافة المستندات التي تدل على عدم انتمائه لها أو صلته بها، وبذا يجد الفرد نفسه أمام خيارات لا تلبي أي منها طموحه الفردي، وتسعى جميعها إلى الانكفاء وتكريس القمع الاجتماعي.