قليلة هي الافلام السينمائية التي تحاول أن تعرض حقيقة الحياة التي نعيشها كما هي، بشكلها الخشن والقبيح والباعث على النفور والاشمئزاز، وعلى الرغم من محاولات الافلام المستقلة القادمة من هوليوود تقديم نوع من الافلام السينمائية التي تجمع بين جودة الاخراج الفني والاداء التشخيصي، إلى جانب الاحتفاظ بمستوى عالي من الاثارة والمتعة، إلا الافلام السينمائية القادمة من أوروبا ما تزال تقدم افضلها من النواحي الفنية غير الخاضعة للربح التجاري الكبير كما هو الحال في السينما الامريكية.

ولعل الفيلم الفرنسي “النبي” Un Prophete، أحد تلك الافلام القليلة التي استطاعت أن تجمع بين جودة النص، والاخراج والاداء، كما أنه تميز كذلك باحتفاظه بحد عالي من المتعة والاثارة، وهو ما لا ينقص من جودته الفنية التي حظيت باعتراف الجمهور والنقاد بفوزه بعدد كبير من الجوائز الفنية السينمائية، أهمها جائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان السينمائي، وجائزة البافتا البريطانية، وترشحه لجائزة الاوسكار لأفضل فيلم اجنبي للعام 2009.

تدور احداث الفيلم حول الشاب (مالك الجبنة) ذو الاصول المغربية الذي يحكم بالحبس ست سنوات بتهمة الاعتداء على رجال الشرطة، ومن خلاله ندخل عالم السجن الملئ بالعديد من الشخصيات المركبة والمعقدة، والملئ ايضاً بالعديد من القصص والاحداث التي تجعل من مالك، ذو الثماني عشر سنة فقط، يتحول في فترة قصيرة من شاب بسيط وساذج وشبه امي إلى شخصية اجرامية تسعى للبقاء على قيد الحياة في هذه الغابة الكبيرة داخل وخارج أسوار السجن، وهي التجربة التي تجعله يلقب بالنبي، لنجاته من الموت على الرغم من بساطته وسذاجته، إلا أن غريزة البقاء تجعله يتطور إلى شخص ذي بديهة سريعة وبصيرة نافذة تجعله قادراً على التعلم بسرعة والتفوق على سادة الاجرام في السجن وفي فرنسا.

يبدأ (مالك الجبنة) الذي لعب دوره بامتياز الفنان (طاهر رحيم)، حياته في السجن بتورطه مع رئيس عصابة اجرامية من الايطاليين الكورسيكيين يدعى (سيزار لوتشياني)، والذي يخلط بين حياته كمجرم وكمناضل من أجل استقلال كورسيكا الايطالية، ليصبح مالك خادماً له ولاهوائه، يقوم بتنفيذ خططه الاجرامية في مقابل أن يقدم له الحماية في سجن يمتلئ بالعديد من الفرنسين ذوي الاصول العربية من الجزائريين والمغاربة. كما نتعرف على عدة اصناف من العرب المسجونين من اهمها اولئك المنضمين إلى مجموعة اسلامية تحاول اعادة تأهيلهم واعادة تعريفهم بهويتهم العربية والاسلامية.

يصطدم مالك، بحقيقة كونه عربي، يعامل باحتقار من قبل الفرنسيين البيض وسادته من الايطاليين الكورسيكيين، كما يحتقر من قبل العرب الاخرين في السجن وخارجه كونه يعمل لحساب البيض و”الكفار” ويعتبرونه مجرد خادم ذليل لسادته من البيض غير العرب المسلمين، إلا أنه وفي سعيه للبقاء على قيد الحياة ينجح في خلق توازن في علاقته مع الجميع بالسجن وينجح في نهاية المطاف بالانتصار على سادته ويحظى بالاحترام من قبل أبناء جلدته.

يتميز الفيلم من الناحية الفنية بقدرته على التعامل مع مسألة المهاجرين في فرنسا بطريقة مباشرة وصادمة، وخاصة وأنه جاء بعد احداث العنف الشهيرة التي شهدتها ضواحي باريس والمدن الفرنسية الاخرى في السنوات القليلة الماضية والتي كانت نتيجة الظلم والعنصرية الا
جتماعية والفقر والعنف المنتشر في ضواحي المدن ذات كثافة عالية من المهاجرين من الاصول الجزائرية والمغربية، حيث يتحول العربي إلى خادم ذليل ينفذ اوامر سيده الابيض، ويتم تذكيره كل يوم بمكانته الحقيرة في دورة الحياة المتواصلة، بل إنه يتعرض للقمع والنبذ الاجتماعي من قبل بني جلده عندما يحاول أن يتبنى هوية جديدة اكثر تصالحاً مع الهوية الفرنسية العامة.

كما يتميز الفيلم بحواراته التي تدار بعدة لغات، الفرنسية العامية، العربية المغربية، والايطالية الكورسيكية، والتي نجدها تستخدم طيلة مدة الفيلم بطريقة متقنة وتوحي بالتنوع الثقافي والعرقي في فرنسا اليوم، وتختزل الفكرة الاساسية من الفيلم وهو سؤال الهوية المتأزمة الذي يواجهنا في عالمنا المنغمس في العولمة التي لا تعترف بالهوية الوطنية المحدودة. وعلى الرغم من مشاهد القتل والعنف الصادمة في الفيلم إلا أن محاولة تحجيم هذا العمل الفني في مشاهد الاثارة والعنف والقتل والنمطيات المعتادة في السينما العالمية عن العرب والمسلمين، وعلاقات عصابات الاجرام المنظم، سيعتبر اجحافاً وتقليلاً من عمق الفكرة المقدمة من هذا العمل الفني المتميز.

“النبي” من بطولة (طاهر رحيم)، (نيلس اريستروب)، و(عادل بن شريف)، ومن اخراج (جاك اوديار)، وهو انتاج فرنسي ايطالي العام 2009.