يعتمد العقل البشري في تفسيره للظواهر الطبيعية التي تحيط به على عدد من الادوات التي تمكنه من استيعاب التغيرات والتطورات التي يستقبلها من خلال الحواس الطبيعية المتعارف عليها. إلا أن أحد أهم الامكانيات التي يتمتع بها العقل البشري هو قدرته على اعتماد التفاسير الموازية للوقائع الطبيعية التي يصعب عليه تفسيرها من خلال الحواس أو من خلال المشاهدة والتحليل المنطقي والفلسفي.

والتفسير الغيبي أو الخرافي للعالم وللطبيعة التي تحيط بنا هو من أقدم التفاسير التي أوجدت ليس فقط القصص والحكايات التقليدية والشعبية، والتي بدورها تتحول في تطورها الطبيعي إلى مجموعة من القيم والطقوس والقوانين التي يتم فلسفتها ووضعها في اطار الدين والتفسير الديني الذي يختلف من زمن إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى. ومع تطور ادوات التفكير البشري وادوات البحث والتفسير العلمي وخاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين، أصبح من المحتم أن يحدث التصادم بين التفسير الخرافي والتفسير العلمي لهذا العالم الذي نعيش فيه.

وعلى الرغم من التباهي العربي بتاريخ الحضارة الاسلامية العلمي، وهو حقيقة لا مجال للجدال فيها على الرغم من اشكالية ربط الاكتشافات العلمية بالاديان، إلا أن الواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية والاسلامية بشكل عام، يجعل المرء يقف مشدوهاً أمام سيطرة التفكير الخرافي ليس على مستوى أفراد ولكن على مستوى مجتمعات بأكملها، بل أكاد لا أبالغ إن قلت بأن العقود الثلاث الاخيرة شهدت تنامياً مرعباً للتفكير الخرافي والغيبي في المجتمعات العربية مقابل تطور نسبي للتفكير العلمي في الربع الثاني والثالث من القرن الماضي.

ولا يقتصر تنامي الخرافة كظاهرة على المجتمعات العربية فحسب، فهناك مجتمعات اكثر تقدماً تظهر فيها الخرافة في شكل ما يسمى بالعلم المزيف pseudoscience وخاصة في المجال الصحي والطبي البديل الذي لا يعتمد على الدليل البحثي والعلمي القابل للنقد والتفنيد واعادة البحث، إلا أنه لا يتشكل في وجود ارتفاع مستويات الأمية والفقر والبطالة وقمع الحريات العامة والاحتقان السياسي والاقتصادي الذي تعاني منه غالبية المجتمعات العربية، وهو ما يمنح أرضية خصبة لتنامي التفكير والعقل الخرافي، أو على الاقل العيش ضمن ثنائية انفصامية متناقضة بين العلوم الحديثة التي تقدم في المدارس والجامعات وبين الخرافات التي تعتمد على الايمان الاعمى والتسليم المطلق حتى وإن كانت مناقضة بشكل صارخ لكل ما يتم تدريسه من علوم في المؤسسات التعليمية العربية.

كما أن هناك فارقاً اساسياً بين النقاش الذي قد يدور حول العلاقة بين العلم والخرافة في المجتمعات الاخرى التي كثيراً ما تنتهي باتفاق على حرية المعتقد والتفكير طالما لم تؤذي أحداً أو أن لا تكون اداة اخرى للسيطرة على الجموع البشرية، فإن مثل هذا النقاش في المجتمعات العربية كثيراً ما ينتهي بالتهديد والوعيد وفي بعض الاحيان بعض الدماء دفاعاً عن المعتقد الغيبي وانتصاراً للخرافة والاساطير.

وحتى لا أدخل فخ التعميم والهروب من مواجهة الظواهر بشكل مباشر، لن اناقش التناقض الخرافي والعلمي في العقل البشري من قبيل الايمان الحرفي بأن الكون خلق في ستة أيام وأن عمره أكثر من ثلاثة عشر مليار سنة، أوعن كائنات غير مرئي
ة مصنوعة من نار تهوى العيش في البالوعات وتستمع بتكدير حياة البشر بتلبسهم، أو عن ظواهر الطقس والمناخ مثل البرق والرعد والمطر والعواصف والاعاصير، على الرغم من امكانية تفسيرها بشكل دقيق باستخدام العلم فهي أيضاً تحمل رسائل غيبية لا يمكن للعقل البشري أن يفسرها.

لن أتحدث عن هذه الظواهر وغيرها ولكنني ساتحدث عن ما يعكس تخصصي العلمي والمهني، الطب وعلاج الامراض والعلل التي تصيب الجسم البشري. ولعل الامراض التي تصيب الانسان منذ اكتمال وعيه على هذه الارض كانت وما تزال اساساً مهماً لتكون التفكير الغيبي والخرافي على مر العصور، وهي كذلك ساهمت في تطور التفكير العلمي البحثي في العقود اللاحقة، وبالرغم من التطور الطبي الواسع في عدة مجالات جعلت الانسان يتخلص بشكل نهائي من أمراض كانت تقضي عليه في سن مبكرة، وقدرته على تطوير وسائل الكشف والعلاج وخاصة في السنوات الخمسين الأخيرة، والتي بنيت على كم هائل من التجارب والاكتشافات العلمية الطبية في مجالات الكيمياء (الكيمياء الحيوية) والفيزياء (علم وظائف الاعضاء) وعلمي التشريح والانسجة والتي كان للعلماء المسلمين والعرب اسهام متميز في تطورها، إلا أن التفسير الخرافي والبدائي للحالة البشرية وللمرض بشكل خاص والعلاجات الغيبية أو المعتمدة على الايحاء النفسي ما تزال منتشرة ليس في المجتمعات العربية والاسلامية وحسب ولكن حتى في دول أكثر تطوراً مثل الدول الاوروبية والولايات المتحدة.

ويعد الطب البديل من أكبر الصناعات العالمية التي تجني الكثير من الارباح على حساب السعي البشري للحصول على التعافي الصحي من الأمراض التي تصيب الجسد والعقل، وعلى الرغم من النقاش الآمن حول علاجات مثل، الابر الصينية، اليوجا، الاعشاب الطبيعية، العلاج بالطاقة والتنويم المغناطيسي، العلاج الشعبي، والمعالجة المثلية أو الهوميوبثي والتي على الرغم من انتشارها في المجتمعات الغربية والعربية بشكل محدود، إلا أنها جميعاً لا تعكس ظاهرة ثقافية عامة في المجتمعات التي تنتشر فيها بقدر ما تعكس حالة اليأس البشري للشفاء من المرض بكل الطرق المتاحة، علمية كانت أو غيبية، بحثية منطقية أو غير قابلة للتفسير العلمي، إلا أن الحالة تختلف في المجتمعات العربية التي ترتبط فيها الخرافة والعلوم المزيفة ارتباطاً وثيقاً ليس فقط بالموروث الاجتماعي التقليدي ولكنها ترتبط بالدين كذلك، وهو ما اعتبره أمراً مفزعاً وخطيراً.

ولا يمكن بأي حال أن يلقى باللوم على الانسان المريض في محاولته الحصول على العلاج بكل الطرق بما فيها العلاجات المزيفة أو التي تستغل حاجة الانسان للشفاء، فانتشار علاجات مثل الرقية الشرعية والعلاج بالقرآن والاعشاب التي تمتلك قدرات اسطورية لشفاء مرض السرطان أو الفقهاء الذين يعالجون مرض الايدز بطرق غامضة، أو علاج المصابين ما يسمى بالمس الشيطاني، أو التفسير غير العلمي للمرض وطرق علاجه من خلال ما يعرف بالطب النبوي، وربط معظم هذه العلاجات بالعلوم الطبيعية من جهة والدين من جهة أخرى يجعل أي نقاش حولها من أجل بيان مدى فاعليتها ونجاعتها، أو حتى تفنيدها ورفضها على خلفية عدم اتباعها للمنهج العلمي البحثي، واعتمادها على التفسير الغيبي للعالم والانسان والمرض، أمراً محفوفاً بالمخاطر، بل إنني اعتبرها وسائل غير اخلاقية تستغل خوف الانسان من المرض والموت للحصول إما على عائد مادي من خلال المال الذي يجنيه الممارسين لهذه العلاجات أو عائد معنوي من خلال التسليم الطوعي والمطلق لأصحاب هذا الفكر الغيبي المقدس.