جون كيتس سيظل اسمك مكتوباً على الماء..
يجلس على حافة المقعد، بالكاد يستند بظهره على الجدار المصنوع من الحجر الجيري الأبيض، لا يبدو عليه الارتياح في هيئته تلك، لكنه لا يملك الكثير من الخيارات فقد انتهت قصيدته في عمر الخامسة والعشرين في ارض غير هذه الارض وفي زمن غير هذا الزمن، يجلس قاطعاً قدميه حول بعضهما، ينظر إلى الجانب الغربي من المستشفى، بدت على وجهه علامات التوجس والقلق، ربما رأى مريضاً يعاني من ألم لا شفاء منه، أو ربما اضطر في الليلة الماضية لبتر قدم أحد العمال الذين يشتغلون في المرفاء الغير بعيد من جسر لندن وبلا تخدير، قد يكون وصف له بعضاً من الويسكي أو الجن الرخيص لكي يقتل ألمه.
يمسك بين يديه دفتراً أوكتاباً صغيراً، ترتاح اصابعه النحيلة فوق بعضها، تنبض العروق البارزة بحياة كانت قد انتزعت منها، يفرد يده اليسرى اسفل الكتاب، بينما تقترب يمناه من الغلاف وكأنها تستعد للولوج إلى عالمه الصاخب بحب أحمق لا يعرف الرحمة، اقتربت لحظة انكشاف الكلمات المكتوبة في الورق، ولكنها تقف هناك ولا تقدم المزيد.
ما يزال ينظر إلى الجانب الغربي من مستشفى (جاي)، يحدق في الحجرة الباردة التي كانت تحوي مرضى السل، ويصل إلى مسامعه سعال أخيه الحاد والمتواصل والذي ينتهي بدماء تلتصق بالمخاط وبعض الموت، اراه يكتم سعاله هو الآخر، يميل قليلاً للامام، يظهر شعره الكثيف والمفرود للخلف بعناية، كان يراه يتساقط في تلك الحجرة الضيقة المطلة على العتبات الاسبانية في روما، لكنه يعود إلى روماه الجديدة، حيث الموت لا يعدم الطرق لاسترجاع المزيد من رعاياه، الموت المطل من الازقة الضيقة للمدينة أو من الاحياء العشوائية جنوب النهر وغير البعيدة من مكان جلوسه.
سترته الداكنة ترتاح على على المقعد برفق، ترتخي عند نهايتها وكأنها تحثه على الاستسلام لمصيره الذي بدأ في بيته المطل على غابة هامستيد هيث، حيث ودع شقيقه قبل سنوات بعد ان لفظ اخر موته بالسعال، حينها لم يتبق له المزيد ليفعله، هل كان سيسرع للمستشفى الذي تركه بعد سنتين هرباً من الصراخ والالم والدماء؟ أم ملاحقاً شبحها وهي تطل عليه بين العشب وحقول الخزامى؟ عائداً إلى حجرته الباردة والمضمغة بالنفوق، ممسكاً بالقلم ملاحقاً الكلمات وهي ترتمى اشلاءً فوق الاوراق المبعثرة على مكتبه، أو ربما عاد هذه المرة كي يمزق دفاتره العابقة بلا جدوى حبه المهلك.
رمى آخر ما لديه من حياة على عتباتها، لكنها ارهقت قلبه الصغير، كان ينزف في لياليه الاخيرة، هو لم يعرف أنه سيكون فقيراً بالعشق، لا يدري من سيكون عندما اقتربت قصيدته من النهاية، حين وقف الاعداء والاصدقاء على الضفة الشمالية من التيمز، عند ملتقى نهر فلييت الجاف هذه الايام، أو لعله ما يزال ينساب بهدوء بعيداً عن ضوء النهار تحت احشاء المدينة، كان يعرف بأنها ستقتله، لذا قرر الرحيل إلى حيث يجب أن يكون.
كان ينسج نهايته التي تليق بحكايته، ها هو يجلس هنا، لا يتحرك، لا يتكلم، لا يتنفس ولا يسعل، أجلس بالقرب منه ارى صورته المنعكسه على زجاج المستشفى، اسمع صراخ آخر المرضى، وقود جديد يحترق كي تستمر المدينة، اسمع همسه وهو يقرأ كلماته الأخيرة، من قصيدته لاميا ملكة ليبيا الاسطورية، والتي في انتقامها صارت تأكل الاطفال، فأكلت ما تبقى من رئتيه، كان يتنفس دماؤه المراقة بين شوارع لندن وميادين روما، كان سيصل إليها عند مفترق الطرق نحو الجنة، إلا أنه قرر البقاء بالقرب منها، حينها وجدتني أجلس على المقعد محاولاً نسيانها، مبتعداً عنها، مرخياً لاسمها العنان فوق سماء تعد بالمز
يد من البياض.