إذا صادف وجلست بجوار انجليزي في قطار مثـلا .. فإن الطريقة المعتادة لكـسـر رتابة الصمت وفتح دردشـة أو حوار .. أن تبدأ بالتعـليق على الجـو: إنه جميل، رائع أو ردئ ..إلخ. وهكذا يبدؤون أحاديثـهم. وربما رد عليك بأن الجو أجمل بالتأكيد في بلدك؟ وقد يتطور الحوار.

لمن إنت بالله ..؟

أما عندنا .. فأقصر طريقة للتـعارف هي أن تسـأل: لمن إنت بالله ..؟ أو تنويعاتها “لمن أو منين حضرتك؟” .. أو ” لهجتك شرقاوي أو جبالي؟” .. وربما أجـاب بأنه من قبيلة كذا .. أو من الخمس أو جردس أو ترهـونة أو يـفرن أو القـيـقـب ؟ وإذا كنت سريع البديهة وعندك فيه مصلحة، سـتبادر بتذكر أزواج عماتك وأزواج بنات خـالة ولدَيـْن بوك ؟ وهكذا يـمـتـد جـسر من الحكايات والـقـرابـة الوهـميـة .. ليـفتـح باب الثـقـة والمـعـاملـة المـتـميزة .. وربما “المســاعدة” وتجـاوز اللوائـح!

“لمن إنت..؟”، من الأسئلة التي يحتاج إليها المواطن الليبي .. لحل أي مشكلة عارضة ، والتعرف على أحد الموظفين في مصرف لتسريع خدمة .. أو لتهدئة خاطر شرطي المرور الذي يريد أن يحرر لك مخالفة !

القـبيـلـة كنـمـط حـيـاة

للمجتمع الليبي خصائصه وخصـوصياته .. بعضها إيجابي وبعضها سلبي. فالقبلية مثلا كانت كيانا اجتماعيا يحقق الدفاع عن أبنائه وعن أرضهم وآبارهم… لكن متى؟ في ظروف البداوة وقبل دخول التقنية. في بيئة تميل إلى الجفاف وعرضة لدورات القحط كل بضع سـنين. آنذاك كانت القبيلة درعا واقيا.

اليوم اختفت مظاهر الحياة القديمة .. هناك خدمات صحة وقائية لمواجـهـة الأوبئة .. ونحن الآن نزرع والأهم أننا قـادرين على اسـتيراد سـلعنا التموينية ، بفضل ريـع النفط. ولم نعد نرحل على ظهور الإبل بل في سيارات قلع وطائرات .. وبكل بيت تلفزيون وحتى الراعي التشادي بيده موبايل.

عـالم الحـداثـة

العـلاقات البشـرية تـغـيرت أيضا .. كان الإبن حين يكبر يرعى أغنام أسرته ويحرث ويحصد. وطـبـعا الأب هـو صاحب الرزق وبالتالي المـهـيمن  .. يأمر ويـقـرر ويزوج أبنـاءه ويربي أحـفــاده

لكن التعليم ووسائط النقل، فتحت للشاب والشابة الانتقال من قريته إلى إحدى المدن لمواصلة الدراسـة .. والعمل في مهنة أو وظيفة كمـدرس أو طبيب أو مـهـندس أو محامي أو محاسب .. إلخ. هـذا الانـتـقال من أجل المستقبل والرزق، أضـعـف سـلطة الأب وأوهـن الانـتـماء القبلي أو الجـهوي.

وحين يخفت الانتماء المحلي لا يبقى سوى حنين إلى أيام الطفولة وذكريات أسرية .. باختصار انتماء فولكلوري . . قد يـعـززه ميراث قطعة أرض وحلم ببناء منزل في مسقط الرأس. لكن الرحلة من البادية إلى المدينة عـادة ما تكون طـريـقاً في اتجـاه واحـد!!

جليّ إذن أن الانتماء القبلي أو الجـهوي في تراجـع. لكن لماذا نـسمـع كل هـذا الإصـرار على إعلان الهوية القبلية أو الانتماء الجـهـوي ؟. وكل هذه اللافتات لروابط القبائل؟

من باب المصـلحـة ؟

أحيانا يصرّ أو يبالغ البعض في تأكيد هذه التمايزات القبلية والجـهـوية التي تفصـلـهم عن الآخـرين .. لأسـباب كثيرة:

·         هـناك أولا تخلي الدولة عن دورهـا في حسم حـوادث السيارات أو جرائم القتل أو مشاكل الأراضي .. فتترك الأمر للجان المصالحة التي تقوم بدور هـام لا ينـكـر .. لكن التسويات إذ تتم من خلال شـيوخ القبائل ، فإن احـتماء الفرد بالقبيلة يتزايد!!
·         وهناك أيضا المصالح المادية التي قد تجنى .. إذ ربما اسـتـغل البعض الهوية القبلية أو الجـهـوية  لتحـقـيـق مصالح شخصية كالحصول على عـطـاء أو الفوز بمنصب !! 
المـغـالطــات

إذن استمرار الحساسيات الجـهـوية ينبع من مغالطات قصدية أو مبالغات عـفـوية. لماذا نعتبرها مغالطـات؟ لأن الليبيين في أي منطقة خليط من كل أنحاء البلاد .. فتجد الكرغلي والمسماري والزوي في سبها وطبرق .. وستجد الفيتوري والفرجاني والهـوني وغيرهم  في أقصى قرى وواحـات برقة. بل إن مراكز حضرية مثل بنغازي ودرنة كادت قبل عـقـود أن تكون بالكامل من سلالة وافدين من الغرب الليبي .. من مصراته وورفله وترهـونة وزليتن وهـون.. وهناك بيوت وأفخاذ وعائلات وبيوتات بكاملها من سـلالة قبائل من طرابلس وفزان سبق أن هاجرت قديما وانصهرت فى بادية برقة.

المفارقة أننا اليوم في القرن 21 ، وضعنا قيودا على الحراك الطبيعي … فالقانون رقم 4 للـعـقارات مثلا، يقف عائقا .. والبعض يتردد أو يمتنع عن الانتقال الوظيفي أو المهني لأنه لا يستطيع امتلاك أو تأجير مسكن إضافي في مدينة أخرى.
شــــعـبيات أو دويـلات ..؟

وتبرز هذه التحيزات الغريبة على روح العصر في مواقـف غير متوقـعـة. فمـثلا، رغـم أن إنشاء جـامعـات في كل الشـعبيات يمثل خـطـوة متـقـدمة ومؤشـر لطمـوحـنا التنموي، إلا أن اقـتصار كل جامعة على أبنـاء منـطـقـتها لا يسـاعد إلا على العزلة والتـقـوقع ونمـو الأوهـام الجـهوية والحسـاسيات. وربما كانت هناك سلبيات لاختلاط الطلبة كما علق أحد المتشـائمين .. كأن يساعد على أعمال الشـغـب والمـظــاهرات الطلابية .. ربما .. لكن زمن الحركات الطلابية مضى في العالم كله .. فالاتحادات الطلابية والنقابية لم تـعـد لـها أي فـعـاليـة سـياسية .. بينما وفـرت الإنترنت والموبايل والمسـاجد، قـنـوات جـديدة للاتصال  ولنشر الأفكــار.

ومهما كانت الملابسات، يبقى من المؤسـف بل من المخجل .. أن تتـقـدم طـالبة من البيضاء مثلا لدراسة طب الأسنان في بنغازي، لعدم وجود كلية لطب الأسنان في مدينتها، ولديها المجموع المطلوب، ثم يرفض قبولـها لا لشئ سـوى أنـها ليست من مواليد المدينة التي بها الجامـعـة. فهل أمست الشـعبيات ولايات منـغـلـقة على نـفـسـها إلى هـذا الحـد؟
قبـيـلـتي أصـحـابي !

أنهي هذا المقال بحكايتين: الأولى تخص صديقي عبد الحكيم برشان .. الذي قـسَـت عليه الأقدار، فـاغترب وتأورب. وبعد ربع قرن قـرر زيارة الوطن. وفي مطار طرابلس العالمي أو الدولي .. سـأله رجل الجوازات عن إسـم قـبـيلـته. فهـز حكيم كـتـفـيـه : ’’ ما نعرفـش!‘‘. ومع تكرار السؤال، انفرجـت أسـاريره، وقال حكيم بكل جدية وشـفافية: ’’ قبـيـلتي أصـحـابي .. باهي؟‘‘. وانفجر الجميع بالضحك.

الثانية ، تـعـليـق لصديق متـقـدم السن قال لي:’’ كلامك مضبوط يادكـتـور.. لكن تخـيل أنك تكون حاصل وضايقه بيك الدنيا  في معاملات إدارية. ومصالحنا الحكـومية عنـدها قـدرة على اخـتراع أغرب الأعـذار لتعطيل المـعـاملات. وبعدين يطلع لك حـد من مـعـارف عمك أو أو أقارب خالك، أو جـار بوك أيام الميزيريا.. وفجأة تتـبـخـر كل المصاعب. فـيه أجمل من هـكي؟ .. بلادنا صـغـيرة .. ولهذا إمكانية التعارف قائمة .. في بلاد أخرى والله ما يعرفك مخلوق .. فالكـثـرة تحرم الود‘‘.

لكنني مع الصديق المهندس محمد شـنيب الذي علق يأن الرد الصحيح هـو ’’ أنا ليبي وبس .. ألا يكـفي هـذا ..؟‘‘. لكن متى تسـتـقـر هذه الـقـنــاعة في قـلـوبنـا ؟
التـعـصـب .. طريق الدمار

وبعيدا عن هـذه الرؤى الدعابية … ييقى التحـيز تحت أي عـنوان أو يافـطـه ظـاهرة متخلفة .. فالتـعـصـب مهما كانت بداياته سـاذجة أو دعابية ، يتحول في النهاية إلى ظـلـم وقـهـر.. كما حدث في حـقـبة التميـيـز العـنـصري في جـنوب أفريقيا وكما يفعل الصـهاينة اليوم في فلسـطين.. وبين الطوائف في العراق والباكسـتان. ولعل أشد المفارقات ما نراه في السودان .. فالجميع هـناك سـود ومسـلمين ويتحدثون العربية، لكنك تجد من يقـول لك أن الفوريـيـن أفارقة وليسوا عربا !! وباسم هذه التصورات ترتكب المذابحوبدرجات مخـتـلفة تمارس العـصـبية عنـدنا، عن جـهـل، في المجتمع الواحد والمدينة الواحـدة والقرية الواحـدة أحيانا

التحيز الأعمى نفي لحقّ الآخر في  أن يكون مخـتـلـفـًا .. في أن يكون له إسـم أو رأي أو سـلوك أو مـعـتقـد مختلف عنك .. وإذا حرمـتـه من تلك الحـقـوق يصـبح أيضا من السـهل أن تـحـرمه من حـقـه في الحياة

_____

* تنويه وشكر: ارسل الدكتور محمد المفتي هذا المقال لنتشرف باعادة نشره في مدونة امتداد فله الشكر والتقدير.