صدر في مثل هذه الايام قبل 150 عاماً (24 نوفمبر 1859) الطبعة الأولى من كتاب عالم الأحياء تشارلز داروين عن (أصل الأنواع) بواسطة الانتقاء الطبيعي، وهو الكتاب الذي شرح فيه داروين نظريته حول تطور اشكال الحياة على الارض بعد عدة سنوات من السفر والبحث والتنقيب بدأت برحلته التي استغرقت خمس سنوات (1831 – 1836) على متن السفينة البيجيل والتي أخذته في رحلة حول العالم جمع خلالها معظم عيناته من الحيوانات والحشرات التي اضاف عليها فيما بعد عدد من الأحافير إلى جانب ساعات متواصلة من التجارب الاحيائية. إلا أن داروين لم ينشر نتائج تجاربه ونظريته في التطور إلا بعد عدة سنوات وبعد ضغوط من زملائه العلماء لنشرها، وذلك لإعتقاده أنها لم تكتمل بعد في حينها ولمعرفته أنها قد تتصادم مع المؤسسة الدينية والعلمية المحافظة ولمراعاته لمشاعر زوجته المسيحية المتدينة.

سبقت اساسيات نظرية التطور، أبحاث داروين بعشرات السنين، إلا أن ما قدمه داروين من خلال كتابه (أصل الانواع) كان أول محاولة علمية جادة لتقديم تفسير منطقي ومبني على البحث العلمي القائم على أسس وقواعد علمية اعتمدت على المشاهدة والاطلاع والمقارنة والتفنيد، كما شكل مفهوم التطور من خلال عملية الانتخاب، أو الانتقاء، الطبيعي وارجاع الأنواع الحياتية إلى أصول واحدة في شجرة الحياة على الارض، أهمية في تغيير نظرة العلماء إلى أصل الحياة بشكل عام.

لن أقوم بتعداد التطور الحاصل في حقائق التطور الدارويني من خلال أصل الانواع، أو الادلة العلمية القائمة عليها بشكل عام فقد سبق لي ذكرها بشكل مختصر ومكثف في تدوينة سابقة، ولكنني سأذكر جزئيتين مهمتين في الجدل الحاصل حول (أصل الأنواع) منذ صدوره قبل مائة وخمسين عاماً.


لعل الصدمة التي شكلتها وضع نظرية علمية شبه متكاملة لأصل الحياة على الارض، على المجتمع المحافظ في بريطانيا أولاً ثم معظم الثقافات الأخرى في العالم سواء تلك القائمة على الاعراف والتقاليد والاساطير، أو على تفاسير دينية غيبية للحياة والعالم والكون، أنها نزعت عن الانسان صفة القداسة التي كان يتمتع بها كونه خلق في شكل استثنائي ومشابه لصورة خالق للحياة، وهو الأمر الذي نزع عن البشر صفة التميز على باقي الكائنات.

كما أن التطور من خلال أصل الانواع أنزل الانسان من مستوى أعلى فوق كافة الكائنات على الارض وجعلت منه كائناً طارئاً وحادثاً ومساوي في القيمة التطورية لكافة أشكال الحياة الأخرى من وحيدات الخلية حتى اكثر الكائنات تعقيداً في عدد الأعضاء والوظائف الحيوية، بمعنى أن تطور أي كائن لا يسعى للوصول إلى أن يكون انساناً، أو أن يكون لديه دماغ له القدرة على النطق والخيال والاختراع والكتابة، بل إن ما يدفع عجلة التطور هو القدرة على البقاء وحفظ النوع وبذلك فإن كافة الكائنات الموجودة الآن على الأرض قد وصلت لأعلى سلم تطورها الخاص بفصيلتها، وإذا طرأ تغيير في الطبيعة أأدى لعدم قدرتها على التطور لتحفظ النوع وتستمر فسيؤدي ذلك إلى انقراضها واندثارها، وبمعنى آخر أنه لا يوجد قصدية أو تحديد مسبق predetermination للتطور أو أن الكائنات تسعى للوصول إلى ما يشبه الانسان، وبذلك يصبح البشر مجرد كائنات طارئة في تاريخ الأرض قد تنقرض يوماً ما ولن يذكرها أحد (الديناصورات عاشت لاكثر من 30 مليون سنة على الارض وانقرضت منذ اكثر من مائتي مليون سنة، بينما لا يزيد عمر أقدم شكل انساني عن اربع ملايين سنة، وعمر فصيلتنا البشرية لا يزيد عن مائتي ألف سنة).

حاول معارضو نظرية التطور نسف فرضياتها وحقائقها من خلال عدة وسائل، ليس أهمها رفع الشعارات المنفرة من قبيل أن النظرية تحط من قدر الانسان وتضعه في صف الحيوانات البدائية مثل القردة وغيرها، أو بدحضها من خلال الخلط الغير متساوي مع التفسيرات الدينية للخلق والنصوص المقدسة، ولكن مع تنامي الأدلة العلمية التي تثبت صحة فرضياتها وتحول النظرية إلى أحد المسلمات الطبيعية، جعل المناوئين يلجؤون إلى دحضها من خلال استخدام الفرضيات شبه العلمية لنظريات أخرى تستخدم اللغة العلمية ولكنها في الحقيقة ليست سوى مجموعة من الادعاءات. أحد هذه الادعاءات تفترض أنه في حال أن التطور كان صحيحاً فلماذا لم نرى أي تطور يحدث للكائنات التي حولنا على الأرض؟!، أليس التطور حالة متواصلة ولم تتوقف!، لماذا لا نرى نوعاً جديداً من الحيوانات التي تعيش في الغابة أو في البحار تطورت من فصائل مشابهة؟!، لماذا لم نرى غوريلا تتطور لكي تصبح إنساناً؟!.

هذه أحد المغالطات المنطقية logical fallacy التي تستخدم في محاولة لتفنيد النظرية، وذلك دون محاولة بحث ودراسة ما إذا كان هذا الادعاء صحيحاً منذ البداية. فالسائل لا يرغب في التعرف على فرضيات هذه النظرية أو تلك وليست لديه أي اهتمام بموضوع النظرية أو مظاهرها ولكنه يضع كل طاقته في سبيل تحطيمها والانتصار لمعتقداته، وهو بذلك ليس في حاجة للالمام بالمسألة المطروحة للنقاش ويسعى لاستخدام كافة الوسائل المتاحة لدحضها.

السرعة التي يسير بها التطور لا يمكن قياسها بالايام أو حتى ببضعة سنين، لذا فالدليل على أن التطور يحدث الآن وانه عملية مستمرة تحتاج إلى مراقبة الكائنات على الارض لفترة تزيد عن عشرات بل مئات الالاف من السنين، ولا يكفي عمر الانسان المكتوب على الارض لملاحظتها، إنها عملية تراكمية تنتج على تغيرات تراكمية صغيرة small incremental changesعلى مدى مئات الآلاف من السنين إن لم يكن الملايين، إنها تشبه عملية تراكم ذرة رمال صغيرة في داخل أنبوب طوله عدة أمتار، في كل سنة تسقط ذرة رمال واحدة، بعد عشرات السنين لن تستطيع تبين أن هناك تغيراً قد طرأ على عدد الذرات المتراكمة في الانبوب ولكنك لا تستطيع أن تدعي أن التغير لم يحدث، وأن عمود ذرات الرمال سيصل إلى مرحلة ملحوظة ولكن بعد مرور مائة ألف سنة، وكلما صغر حجم الكائن وكان اقل تعقيداً كلما تسارعت وتيرة التطور، وابلغ دليل على ذلك هو البكتيريا والفيروسات التي تتطور بشكل سريع يفوق قدرتنا على اللحاق بتأثيرها القاتل، من أهمها فيروس الانفلونزا الذي يتغير ويتطور كل عام، والفيروس المسبب لمرض الايدز، والبكتيريا التي تتطور لتصبح لديها مناعة أكبر أمام المضادات الحيوية المختلفة.

التطور هو وسيلة طبيعية لحفظ النوع والتعامل مع كافة أشكال التغيرات الطبيعية على الارض في سبيل تحقيق ال
هدف الأساسي من الحياة، وهو مواصلتها، ولو اردنا قياس أي الاحياء أكثر نجاحاً فسيكون ذلك النوع الذي يمكنه التطور لحفظ نوعه ونقل الجينات إلى الجيل اللاحق في محاولة للبقاء والاستمرار وتجنب الانقراض.


أصل الأنواع يصل إلى عمر المائة والخمسين، مع تعزيز نظرية التطور بمزيد من الادلة والابحاث العلمية التي تجعلنا أقرب كل يوم لمعرفة المزيد عن أصل الحياة على الارض مما يتيح صورة أوضح عن تكويننا العضوي للوصول إلى استيعاب وسائل للحفاظ على الحياة فوق الارض من الأمراض والتغيرات والكوارث الطبيعية، لربما نستطيع في أحسن الأحوال أن نتجنب أنقراض البشر كنوع احيائي في هذا الكون.