يجبرني في كل مرة نلتقي على الذهاب إلى احد المتاحف الفنية أو التاريخية المنتشرة في لندن. وعلى الرغم من عدم اعتراضي الظاهر على مصاحبته إلى هذه الاماكن إلا أنني كنت افضل أن امضي أمسياتي واحياناً ظهيرتي في المقهى أو في احد الحانات في وسط المدينة، أو التسكع في ازقة سوهو الفوضوية.


لا انكر أنني استفدت كثيراً من تجوالي معه في المتحف البريطاني أو متحف التاريخ الطبيعي أو الرواق الوطني للوحات الفنية، إلا أن تكرار اللوحات والقطع الاثرية، والتفاصيل التاريخية والفنية التي يتفنن في سردها، في كل مرة نزور هذه الاماكن يجعلني اصاب بالملل والنعاس وهو ما يحدث في أغلب الاحيان حيث أجلس على المقاعد الجلدية في وسط قاعات العرض والمخصصة للتأمل في اللوحات المعروضة، وما أن يمر بعض الوقت حتى أجدني املأ المكان بصدى شخيري المزلزل.


نقف في وسط الجسر الرابط بين ضفتي النهر الجنوبية والشمالية، ويقول لي بأن هذا الجسر هو اخر الجسور التي بنيت على نهر التايمز وهو من تصميم السير نورمان فوستر الذي من بين تصاميمه عمارة “الخيارة” غير البعيدة من هذه المنطقة من لندن، ينظر إلى قبة كاتدرائية “سيدي” بولس في الضفة الشمالية ويشير للصليب في اعلاها ثم يشير لبرج مبنى متحف تايت مودرن للفن المعاصر في الضفة الجنوبية ويقول “هذا هو الجسر الرابط بين الماضي والمستقبل، بين الدين والعلمانية، بين القوانين القمعية الالهية والانسانية الابداعية المتحررة.”


كثيراً ما اجدني لا افهم ما يقوله وما يشير إليه، واحياناً اتوقف لبعض اللحظات لأعد حتى العشرة ولأخذ نفساً عميقاً حتى اتجنب غضبي ورغبتي الشديدة في تسديد لكمة لا ترى النور في اتجاه فمه الممتليء بالهراء، أو أنني استأذنه لبعض اللحظات للخروج لاحراق لفافة تبغ ستعينني على قضاء باقي الوقت معه.


أحياناً اتساءل، لما مازلت ارافقه، إن كنت لا استمتع بوقتي معه، لماذا اشعر بالغضب من فلسفته وكثرة حديثه اللامجدي، ولما لا اسدد له تلك اللكمة التي طالما راودتني. ولكنني لا اجد اجابة عن كل هذه الاسئلة، غير أنني اعلم بأنني كائن لا يستطيع العيش لوحده في هذه المدينة المتوحشة، كما أنني لا أجد من يستطيع أن يتحمل شخصيتي المتهورة واللامبالية والمجنونة احياناً، كما أنه يجمعنا مشترك واحد ومهم وهو التناقض العبثي.


في الليلة الاخيرة التي رأيته فيها، كان في حالة يرثى لها، بعد أن فقد عمله في محل البيتزا الذي كان يمنحه بعض الطعام والامان المادي، ولم يعد يملك مالاً كي يدفع ايجار الغرفة التي يسكنها في بيت في جنوب شرق المدينة. أخبرني أنه قد دفع آخر خمس جنيهات لشراء رواية جورج اورويل 1984 من سوق الكتب المستعملة تحت جسر واترلو.


رفض عزومتي على فنجان من القهوة بمقهى بوسط كوفنت غاردن، سار باتجاه الركن البعيد من الميدان ثم جلس على الارض المبلطة بالحجارة وراح يتابع عزف أحد فناني الارصفة المنتشرين في البياتزا، كان يغني بشجن لحناً قديماً من السبعينات لا اتذكره، لم أشأ قطع تأمله الحزين، ذهبت مسرعاً إلى المقهى القريب لأشترى له كوباً من القهوة بالحليب، لم يستغرق ذلك الكثير من الوقت، عدت إلى حيث يجلس إلا انني فوجئت باختفائه، لم يترك اثراً وراءه سوى الكتاب الذي اشتراه بآخر خمس جنيهات لديه، نظرت حولي علني ألمحه في وسط الزحام، ولكنني لم أرى سوى المزيد من الوجوه المتشابهة، جلست بالقرب من مكان جلوسه، تجرعت رشفة من قهوته الدافئة، في انتظار عودته.