tumblr_mlzpf4RdFB1qfr8zko1_500

مؤسس ادب (ما دون الواقعية) في امريكا اللاتينية هجر الشعر إلى السرد لكي يعيش

يمثل الادب الامريكي اللاتيني بخياله السحري وواقعيته الخشنة، بشعره وسرده، احد أهم مصادر التطور الابداعي على مستوى الادب العالمي. كما تعد امريكا اللاتينية أكثر المناطق حيوية ونشاطاً على صعيد الانتاج الادبي وتنوع المدارس والاسماء التي يتم ترجمتها وتصديرها بجميع لغات العالم وأهمها الانجليزية والفرنسية وبطبيعة الحال العربية.

ويحاول بعض نقاد الادب اللاتيني تقسيم مدارسه إلى الفانتازية (الخيالية)، والواقعية المجردة ولدى كل مدرسة اسماؤها وخصائصها حتى أن البعض جنح إلى توزيعها جغرافياً، فدول شمال أمريكا اللاتينية انتجت الفانتازيا، مثل اعمال كورتثار وماركيز، بينما انتجت الدول الجنوبية الواقعية، مثل أعمال فارغس يوسا وايليندي، إلا أن ظهور الواقعية السحرية وإن كانت تصنف ضمن المدارس الفانتازية جعل مثل هذا التصنيف الجغرافي غير ذي قيمة نقدية عند دراسة الادب اللاتيني بشكل عام.

ومع تطور المجتمعات اللاتينية في العقود الثلاثة الماضية على عدة مستويات ظهرت اساليب ومدارس ابداعية جديدة، تحاول التمرد على القوالب والاشكال الابداعية التي ميزت الادب اللاتيني المعاصر.

يعتبر الشاعر والروائي التشيلي روبرتو بولانيو أحدث الاسماء التي يتم الاحتفاء بها على المستوى العالمي على الرغم من المفارقات – الساخرة والمأسوية- التي ترتبط باسم هذا الكاتب المتمرد على كل الاشكال والقوالب الادبية التي انتجها الادب اللاتيني على مر العقود السابقة. فعلى الرغم من تصنيف نفسه كشاعر إلا أنه كتب القصة القصيرة والرواية، وعلى الرغم من اعتباره أحد أهم الاسماء في الادب التشيلي المعاصر إلا أنه عاش معظم حياته الابداعية بين المكسيك واسبانيا.

ولد روبرتو بولانيو العام 1953 في مدينة سانتياغو التشيلية لأب عمل في قيادة شاحنات النقل إلى جانب احترافه للملاكمة بينما عملت أمه كمعلمة للرياضيات، وقضى جانباً من طفولته في التشيلي حتى العام 1968 عندما انتقلت عائلته للعيش والعمل في العاصمة المكسكية (مكسيكو سيتي).

بدأ بولانيو في مطلع السبعينات من القرن العشرين يرتاد حلقات الشعراء اللاتينيين المنتشرة في مدينة مكسيكو سيتي وكانت محاولاته الشعرية الأولى متأثرة بالشعراء اللاتينيين الكبار أمثال نيرودا وفاليخو وبارا، إلا أن رحلته إلى مسقط رأسه التشيلي في العام 1973، لمساندة الحركة الاشتراكية التي انطلقت في البلاد بانتخاب الرئيس سالفادور ايليندي ومن ثم الاطاحة به في انقلاب الجنرال بينوشي الدموي، كانت أحد أهم المنعطفات التي شكلت حياته وأسلوبه الادبي فيما بعد، فعلى اثر خروجه من المعتقل الذي قضى فيه فترة قصيرة في التشيلي، عاش بولانيو متشرداً بين السلفادور والمكسيك وفرنسا واسبانيا والتي انتقل إليها بشكل نهائي العام 1977 متخذاً من مدينة برشلونة مقراً له. انتقل بولانيو في هذه الفترة بين عدة أعمال، من غاسل للصحون، إلى جامع للقمامة، ليقضي باقي وقته في المطالعة والكتابة.

استمر بولانيو في كتابة الشعر بشكل متقطع طيلة عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي إلا أنه تحول إلى الكتابة السردية (القصة والرواية) مع منتصف الثمانينات، وبالرغم من ذلك فقد استمر في تصنيف نفسه كشاعر واعتبر الكتابة السردية وسيلة لكسب العيش له ولأسرته الصغيرة، وهي ما حققت له مكانة مرموقة في اسبانيا وامريكا اللاتينية.

صدرت أولى أعماله السردية بالاسبانية العام 1984، لتتوالى اعماله الروائية بعد ذلك حتى صدور روايته (المخبرون المتوحشون) العام 1998 التي لاقت نجاحاً كبيراً في اسبانيا تحديداً وفازت بعدد من الجوائز الادبية. وعلى الرغم من غزارة انتاجه الروائي في فترة قصيرة من الزمن (عشرة سنوات) فإنه لم يحظى بشهرة عالمية إلا بعد أن ترجمت روايته (ليلاً في تشيلي) العام 2003 إلى الانجليزية، وهو نفس العام الذي توفي فيه ربيرتو بولانيو بمرض الفشل الكبدي والذي عانى منه طيلة السنوات العشر الاخيرة من عمره والتي انتج فيها معظم أعماله الروائية.

وعلى الرغم من وفاة روبرتو بولانيو قبل اكثر من ستة سنوات فإنه اعماله السردية الجديدة ما تزال تصدر كل عام، بل إن أضخم رواياته التي انجزها قبل مماته هي روايته الملحمية المقسمة إلى خمسة اجزاء والمعنونة (2666) والتي صدرت بعد عام من وفاته بالاسبانية (العام 2004) وبالانجليزية مطلع العام 2009، وهناك حديث عن اكتشاف المزيد من المخطوطات الروائية التي تركها الكاتب والتي يتوقع صدورها بعدة لغات قريباً.

يعد روبرتو بولانيو أحد مبدعي المدرسة الادبية الحديثة التي اطلق عليها اسم (ما دون الواقعية) Infrarealism والتي اشترك في أطلاقها مع الشاعر المكسيكي ماريو سانتياغو منتصف السبعينات في المكسيك والتي دعا فيها الادباء اللاتينيين لترك حياة الادب التقليدية في المقاهي والمكتبات والتوحد في حياة التقشف والتشرد والانغماس في الادب بشكل كامل وهو ما جعل كتاباته السردية بشكل عام تنحو للسيرة الذاتية والاستعارات المتكررة للشخوص واسماء الاماكن التي مرت في حياته، ولعل اشهر هذه الشخصيات الروائية التي قام باستعمالها في عدة اعمال سردية هي شخصية الشاعر (ارتورو بيلانو) وهي تحوير لغوي في اسم روبيرتو بولانيو نفسه.

تتميز كتابات بولانيو بالتركيز على السرد اليومي الرتيب، دون أن يفقد ذلك من حيوية الشخصيات والاحداث المستخدمة في النص، كما أن تقاطع اشكال ادبية اخرى في السرد مثل المذكرات واليوميات والتقرير الصحفي يجعل من رواياته تتمتع بقدر كبير من الاثارة والعمق الفلسفي ولعل رواياتيه (المخبرون المتوحشون) و(2666) ومجموعته القصصية (امسيات اخيرة على الارض) من أفضل الامثلة التي تظهر فيها هذه التقنية السردية التي جعلت من بولانيو علامة ادبية مسجلة لا تقل أهمية عن علامات أخرى في الادب اللاتيني المعاصر.

في مجموعته (أمسيات أخيرة على الارض) والتي اخترنا احدى قصصها (بطاقة رقص) لترجمتها، نتبين بشكل واضح اسلوب بولانيو السردي الواقعي، فنحن أمام قصص لا تعترف بالمسافة بين الواقعي والمتخيل، بل إن الشخصية الراوية للاحداث لا تهتم بالبوح باسمها وينحو بولانيو احياناً إلى استخدام احرف أولى في تسمية بعض الشخصيات في عدد من القصص مثل (أ) و(ب) و(ج) و(ي)، كما لو أن الاسماء في حقيقتها لا تشكل أهمية أمام الحدث والمكان بكليته، وقد يوحي السرد الرتيب للقارئ بأن الكاتب يحاول ايقاعنا في فخ الرتابة لكي يفاجأنا بالنهاية المفجعة أو الاكثر اثارة إلا أن بولانيو لا يقدم لنا سوى نهايات مبتورة في وسط الحدث وكأنه يحاول القول بأن ما ينقله هو مجرد جزء من حركة الزمن في المكان دون محاولة لجعله مبهراً أو مثيراً أو بطولياً.

ولا يخفي بولانيو شغفه بالتجريب فعلى الرغم من تشابه بعض القصص في اماكن حدوثها وفي الشخصيات المتمحورة حولها مما يجعلها أقرب لفصول في رواية واحدة إلا أن ما يمنحنا الاحساس بإختلافها وتباينها هو الاسلوب والبناء السردي الذي يتبعه مع كل قصة وهو ما نراه كذلك في أعماله الروائية الضخمة والقصيرة التي كتبت بنفس الاسلوب.

في قصة (بطاقة رقص) والتي نعرضها هنا، نجد هذا التجريب السردي جلياً من خلال تقسيم النص على هيئة اجزاء مرقمة متلاحقة، وكأنها ملاحظات في دفتر يوميات أو ربما برقيات قصيرة تلخص سيرة الكاتب وعلاقته الحميمة بالادب، وبالشعر تحديداً، ولعل الاسباب التي جعلتني اختار هذا النص القصير لترجمته كونه يختزل اسلوب وحياة روبيرتو بولانيو التي بدأت رتيبة وانتهت برتابة كذلك إلا أن اندماجه الاسطوري بالشعر والسرد جعله يصبح أحد الشخصيات الروائية التي تعيش في كتبه، وبالرغم من وفاته العام 2003 فإن تحول أسمه ورواياته إلى ظاهرة أدبية عالمية بعد مغادرته هذه الحياة، جعل من المفارقة الساخرة والمأسوية لشخصيته (ما دون الواقعية) تزداد حياة كل يوم بصدور المزيد من رواياته وقصصه وأشعاره.

روبرتو بولانيو: ولد العام 1953 بتشيلي وتوفي العام 2003 باسبانيا، صدر له:

شعر:

الكلاب الرومانسية: قصائد 1980-1998 (2000)

ثلاثة (2000)

الجامعة المجهولة (2007)

من أعماله السردية:

الادب النازي في الامريكيتين (1996)

نجم بعيد (1996)

المخبرون المتوحشون (1998)

تعويذة (1999)

السيد خبز (1999)

ليلاً في تشيلي (2000)

2666 (صدرت العام 2004)

أمسيات اخيرة على الارض (2006)