قصة: عزة كامل المقهور


 كنت قد نلت الشهادة الثانوية تلك السنة، في إنتظار الالتحاق بالجامعة، حين أسندت إلي أول مهمة عائلية، وهي تسجيل شقيقي الأصغر “معاوية” في سنة أولى ابتدائي. كان معاوية قد تجاوز الخامسة من عمره بأشهر، ولم يبلغ السادسة بعد. وكانت رغبة والدتي أن يتلحق بالدراسة في تلك السنة حتى لا يضطر للانتظار سنة أخرى.

 

كان معاوية طفلاً جميلاً، ممتلئا ومعافىً، شعره ناعم ملون يحف جبهته العالية، عيناه سودوان بحدقتين واسعتين، ينغرس بينهما أنف روماني، أما ثغره فكان باسماً حتى في نومه. كان هادئاً، يعرف ما يريد، وينال مبتغاه دون عِند ولا مجاملة.


كانت مهمة عسيرة لفتاة بالكاد بلغت السادسة عشرة من العمر، لا تعرف من مدينتها إلا الحي الذي تقطن فيه أو ” الظهرة” التي تجري في عروقنا منذ الصغر.

 

أمسكت بيد معاوية الصغيرة البضة وانطلقت من بيت جدتي، انحدرت مع شارع “البرج”، ثم تبعت الشارع الرئيسي الطويل الممتد كاللسان، حتى وصلنا نهاية مدرسة تطل على الشارع الرئيسي، وصفت لي بأنها زاوية المنعطف الذي يقود إلى المدرسة الابتدائية.

 

عبرنا معاً الشارع بخطى متسارعه، ويدي تطبق على يده، حتى وصلنا الرصيف الفاصل، نظرت اليه من فوق كتفي الأيمن، فرفع رأسه وغارت نظراته المتوهجة من عينيه الواسعتين في عيني، انطلقنا مجدداً بذات الإيقاع نعبر إلى الرصيف الآخر، لتلتقي نظراتنا وثغرانا يبتسمان، لقد اجتزنا الطريق، ولم يبق إلا القليل لنصل.

 

كان الجو صحوا.. والشمس تفترش السماء من فوقنا، لم نكف عن الابتسام لبعضنا البعض، ولم نتحدث إطلاقاً، لم أشرح لمعاوية وجهتنا، وافترضت أن والدتنا قد أسهبت في شرح الأمر له، كنت منشغلة بالمهمة التي أوكلت لي.


 استسلمنا إلى خطواتنا في الطريق الترابي حتى وصلنا آخر الشارع حيث وجدنا إلى اليمين بابا حديديا كبيرا أخضر مواربا.  دفعت بيدين مرتعشتين الباب، لأجد بواب المدرسة يقف خلفه وينظر إليّ. كنت قد استعددت للرد حال السؤال، إلا أنني لم أنتظر، وانطلق لساني يقول له “أريد أن أقابل المديرة، أبله…”

 

لم يرد علي ! ..

 

التفت نحو اليسار، ولازالت يد معاوية تمسك بيدي، فوجدتنا نقف في ساحة ترابية واسعة، يحفها مبنى من دور واحد يمتد بشكل مستطيل، ما أن وصلنا إلى درجتيه الرخاميتين حتى انحدرت عيوننا معاً نحو أقدامنا وهي تصعد بشكل متناغم تلكما الدرجتين. كان معاوية قد بدأ يهتم بالموسيقى آنذاك، ويجلس إلى جانبي وأنا أعزف له أغنية (مرسيل خليفة) “عصفور طل من الشباك”… نغنيها سوياً.

 

  ولجنا إلى المبنى، وكانت العتمة التي شفها ضوء الشمس الباهر في الساحة قد عمت المكان، أصوات المعلمات ذات النبرة الحادة تنطلق من أكثر من جهة، أوقدت شعور الخوف داخلي ليصل حتى أطرافي. مازال معاوية يتشبث بيدي، إلا أنني في تلك اللحظات وجدتني أضغط على يده الصغيرة البضة أكثر من مرة وبشكل متقطع، وكأنني أتأكد من أنه مازال متشبثا بي، وأنني هنا لأجله، ولأجل مهمة عائلية علي إنجازها.

 

تفحصتني الأعين المثبتة في الوجوه الجامدة دون أن تطيل، لتعاود النظر من جديد. لم تبادرني واحدة منهن بالسؤال عن خطبي وأنا أستمسك بيد طفل صغير جميل…. شعره ناعم كثيف، وعيناه سودوان تلتهمان وجهه..

 

نظرت إليه، فرفع رأسه ونظر إليّ وابتسم..

 

وددت أن ألقي السلام، فغصت في حلقي التحية، وقد تناثرت الوجوه هنا وهناك، واشتعلت الأصوات بين جنبات المبنى، حتى تراءت لي الأوراق المبعثرة على المكتب الوحيد الذي يتوسط القاعة و أكواب الشاي الصغيرة وكأنها تهتز.

 

تجرأت… ونفخت بكلماتي في الهواء فخرجت كالبالونات التي مضت على نفخها أيام، أسأل عن المديرة … وقبل أن أتلقى الرد، إذا بإحداهن تصيح من داخل القاعة.. “أنا المديرة” هممت بالرد ثم تراجعت .. وددت أن أقول لها..

 

 أنا أريد فقط تسجيل شقيقي في المدرسة.. وهذه أول مهمة تسند إلى في حياتي بهذه الأهمية.. وأن شقيقي الصغير الممسك بيدي رائع ومؤدب.. وهو الأقرب إلى قلبي.. أدفئه بين أحضاني كل ليلة و أرعاه نهاراً…. وددت أن أقول لها أن هذا هو فقط طلبي لا غير.

 

 لم تخرج الكلمات.. وحين خرجت بصعوبة جاءت في صوت خافت للغاية.. صرخت مرة أخرى.. “شن تبي.. التسجيل سكرناه.. خلاص ما نقبلو حد..”

 

تجمعت كل قواي.. واستدرت ناحية الصوت، وجدت سيدة ذات وجه أبيض مدور وجسد ممتليء.. تضع على رأسها إيشارب وتربطه إلى الخلف.. تنظر إليّ وإلى معاوية… تنتظر بنظرة متحدية أن أرد، أو أستدير وأعود.

 

لم أرد ولم أستدر.. توجهت نحوها.. اقتربت منها.. ومازال معاوية عالقاً بيدي.. اقتربت أكثر.. فأكثر.. اعتدلت في وقفتها.. وعيناها لا تصدقان اقترابي الصامت هذا، عيناي تنظران إليها بلا توقف إلى أن وصلت أواجهها.. كتفي يقترب من كتفها رفعت رأسي واقتربت من أذنها، أحنت إليّ رأسها همست لها.. “أنا باعتتني لك أبله نوريه باش نسجل خوي معاوية“.

 

بصوت منخفض قالت ليّ  “.. هاتي وراقيه.. وينهم!”.

 

خرجت من المدرسة ومازال معاوية ممسكاً بيدي.. لم أعر البواب اهتماماً وأنا أخرج.. ركبنا الشارع الترابي، ثم وصلنا معاً إلى الشارع الرئيسي، اجتزناه سوياً إلى الرصيف الفاصل ومنه إلى الرصيف الآخر.. معاوية مازال ممسكاً بيدي لم ننبس ببنت شفة.. انطلقنا معاً يبتسم كلانا للآخر،

 

 كانت بداية رحلتي القصيرة مع معاوية!

 

طرابلس: 18. 2. 2009


_____

* نشرت القصة بصحيفة ليبيا اليوم واعدت نشرها بالاتفاق مع الكاتبة.