كنت قد اعددت هذا المقال للنشر في "امتداد" قبل عدة ايام إلا انني لم استطع استكماله في الوقت المناسب لعدة اسباب. إلا أن الفوز التاريخي للرئيس الامريكي المنتخب (باراك اوباما) عزز من الافكار التي اريد طرحها.
 
لعل احد اهم اسباب تطور اي مجتمع مدني حديث هي مدى قدرته على استيعاب ثقافات أخرى ومتعددة والاستفادة منها في التطوير والتغيير، بل اكاد لا ابالغ إن قلت بأن التعددية الثقافية في أي مجتمع تشكل عنصر قوة واثراء له، فالاختلاف الايجابي في المجتمع يؤدي إلى طرح الاسئلة الثقافية والمجتمعية الملحة والتي تعزز في النهاية من قيم التسامح، والمواطنة. ولعل الحملة الانتخابية الامريكية الاخيرة وفوز (باراك اوباما) بها مرده، ليس فقط السياسة وسلطة رأس المال والسوق وغيرها من الاسباب، إلى أحد اهم مصارد قوة الولايات المتحدة الامريكية، أو اي مجتمع آخر، وهي التعددية الثقافية لهذا المجتمع، مما يشكل ثراءً ثقافياً لا محدود.
 
وهذا ينقلنا إلى الجانب الآخر من هذه الجدلية، ألا وهي المجتمعات التي تفتقر هذه التعددية نتيجة احداث سياسية واجتماعية/دينية، فرضت على جماعاتها الثقافية المتعددة، هذه المجتمعات والتي فرضت لوناً واحداً وطيفاً واحداً وعيناً واحدة لتقديم نفسها للعالم تعاني، من وجهة نظري، فقراً ثقافياً، جعلها مجتمعات منعزلة، تلتف حول ثقافتها الاحادية وتعاني من فقر وتحلل لقيم التسامح، والمواطنة وقبول الاخر والمختلف، ويتغلغل خلال وعيها الجمعي مظاهر العنصرية، الكراهية، الحقد والسلبية المدمرة.
 
ولعل المجتمع الليبي مثال قريب لهذه الحالة. فليبيا وحتى قبل تكونها ككيان سياسي في منطقة البحر المتوسط، كانت بوتقة لصهر ثقافات متعددة ما تزال شواهدها ملموسة في بلدان شمال المتوسط. ففي زمن غير بعيد كان "الليبي" كهوية ثقافية يضم بداخله العربي، التركي، الزنجي، التارقي، الامازيغي، المسلم السني والاباضي والصوفي، اليهودي، المسيحي الايطالي واليوناني والمالطي.. وغيرها من الثقافات الاخرى، فليبيا وحتى الستينات من القرن العشرين كان مجتمعاً يضج بالحيوية والتعددية الثقافية الثرية وهو ربما ما ساهم في جعل الليبيين عامة يتصفون بالتسامح، البساطة، الطيبة، وسعة الصدر.
 
إلا أنه مع مطلع سبعينات القرن الماضي بدأت ليبيا بفقدان اجزاء هامة من هويتها الثقافية المتعددة وتبنت السلطة الفكرية السائدة في البلاد اتجاهاً احادياً لتعريف الهوية الليبية واصبح الجميع يعزف على وتر واحد هو العروبة والاسلام، بل ومع التسعينات صُدِّر لنا اسلام احادي الرؤية لا يمت بواقع وتاريخ وحضارة مجتمعنا بهويته المتميزة، حتى تلك الثقافات المتبقية، كالامازيغية أو التارقية، حاولت الثقافة السائدة جمعها وصهرها ثقافياً في هوية جديدة لا تتناسب معها، مما ادى إلى ضياع أحد اوجه ثقافاتنا الغنية.
 
إن فقدان المجتمع الليبي لمكوناته لمكوناته الثقافية التي ظلت لفترة طويلة أو قصيرة تشكل وجهه، ومحاولة اذابة ما تبقى من مكونات اخرى ظلت تعيش في البلاد ولم يتم ترحيلها أو تهجيرها او "اجلائها" ادى إلى خسارة الجانب الاهم من ثرائنا الثقافي وفتح الباب لولوج قيم دخيلة على مجتمعنا كالعنصرية، والكراهية والتشدد والعنف "الرمزي" والجسدي، واكاد لا ابالغ إن قلت بأن ليبيا خسرت بتحولها إلى مجتمع احادي الثقافة والهوية والدين واللغة والعرق، وهو ربما ما اضعف من هويتنا المجتمعية والوطنية وادى لفقرنا الثقافي.