قد يبدوالعنوان اكبر من حجم ادراج بسيط في مدونة ولكن هذه المعضلة التي تطرح نفسها عليناعندما نطالع الاخبار والاحداث التي تمر بها ليبيا خلال السنوات القليلة الماضية تفرض نفسها بقوة هذه الايام. العديد من الليبيين قد يشخص الازمات التي نمر بها في ليبيا على عدة مستويات وذلك بحسب تخصص كل منا او ربما خلفياتنا التي ننطلق منها لفهم ما حولنا من ظواهر للمشاكل التي تعترضنا، فهناك من يعزو إلى اننا نعاني من ازمة اقتصادية تنعكس بالسلب على حال المواطن وبشكل مباشر على حال المجتمع، لذا تجد من يدعو إلى تنفيذ حلول اقتصادية ترفع من المستوى المعيشي للمواطن الليبي. البعض الاخر يؤكد على ان صلب ازمتنا هي التركيبة الاجتماعية الليبية ومركزاً بدرجة كبيرة على النزعات القبلية والجهوية والتعصب الاجتماعي الذي ادى إلى مشاكل استفحلت في مناطق خارج المدن الرئيسية، بل وطالت بعضها في السنوات الاخيرة. لكن الجميع يكاد يجمع بأن اي حلول اقتصادية للخروج من الفقر والعوز في ليبيا او ان الحلول الاجتماعية واقصاء دور القبلية في حياتنا لن يكون ناجحاً ما لم نواجه الحالة السياسية الليبية والتي تعاني من مشاكل وازمات لا يمكن حصرها هنا.

في الاشهر الماضية ساد الركود التي تعيشه ليبيا وخاصة على المستوى السياسي حراكاً لم نشهده منذ عدة سنوات، منح الجميع مساحة للتنفس خارج الكمامات التي نرتديها منذ زمن محاولة منا على ما اعتقد لتجديد الهواء الفاسد الذي نتنفسه كل يوم، وبغض النظر عن ما يتدوال من مختلف التيارات والنخب في ليبيا وخارجها، فإن علينا ان ننظر بعين متفائلة ولو بحذر لما يتكون في ليبيا على الصعيد السياسي تحديداً
وباقي الاصعدة المكونة للفرد والمجتمع بشكل عام.

إلا ان النقاش الذي تفجر من خلال هذه التطورات في ليبيا اظهر مشكلة اخرى اكبر واعمق من كل المشاكل والازمات التي مرت بها وتمر بها ليبيا، ربما منذ قيامها ككيان سياسي منتصف القرن الماضي. فالجدل المتواصل بين التيارات السياسية – ان صح التعبير بوجود هكذا تيارات في ليبيا – والحدة والغوغائية في بعض الاحيان التي اتسمت بها بعض هذه النقاشات، والتعليقات السطحية والمتطرفة التي نقرأها كذلك على صفحات الصحف والمواقع والمدونات الليبية، كما ان استمرارية تواجد القوى السلبية والمتشائمة والمكتئبة والمحبطة بشكل مرضي احياناً، من قبل النخب الليبية من كتاب وصحفيين واكاديميين، مقابل سلبية مزمنة تميز الشارع الليبي بشكل عام، دلت كل هذه المؤشرات على ان الازمة الليبية تكمن في التكوين الثقافي للفرد الليبي، والذي ينعكس بالضرورة على حالة المجتمع ككل.

وقد يتبادر للكثيرين ان مصطلح ثقافة المستعمل بشكل مبتذل في ليبيا وفي ثقافتنا العربية التي تعاني ازمة مشابهة، يقصد به الادب والصحافة والفنون المختلفة، وهو ما يشملها ولكن لا ينتهي عندها، وقد اذهب بعيداً لأقول بأن هناك اتفاق مبيت لحصر الثقافة في هذه المحددات البسيطة واقصاء دورها المهم في تكوين وبناء الفرد.

فالثقافة هنا تعني المهارات العقلية والنفسية التي يتلقاها الفرد منذ الصغر من الاسرة والمدرسة وافراد المجتمع المحيطين به لكي تعينه على مواجهة ازمات الحياة من جهة وتساهم في بناء ادوات صنع القرار على المستوى الفردي والذي ينبغي ان ينعكس على المستوى المجتمعي.

ويجب ان لا يفسر كلامي هنا بأنه لا توجد ثقافة في ليبيا، او لنقل تجاوزاً ثقافة ليبية محلية تميزها عن باقي الثقافات الاقليمية المجاورة، ولكن السؤال المطروح هنا عن ماهية ونوعية هذه الثقافة الليبية السائدة التي تطبع المجتمع والفرد الليبي، وهل هي الثقافة التي تساهم في جعل التغيير والتطور حقيقة قائمة على الارض، ام انها ثقافة تقوم على منظومة قيم تغيرت مع الزمن نتيجة لضغوط سياسية واقتصادية واجتماعية/دينية، جعلت منها ثقافة منعزلة، مستكينة ترفض الاخر وتدعو إلى مزيد من السلبية والاحباط والاكتئاب المجتمعي.

وهذه الحالة ازدادت تأزماً مع غياب آليات ثقافية وتقاليد ونظم اجتماعية لترسيخ قيم ثقافية اكثر فعالية، بل ان هناك قيماً ثقافية اكتسبها المجتمع الليبي أو اخرى تشكل جزءً من التاريخ الاجتماعي والثقافي للبلاد، اصبحنا نشاهد اندثارها واضمحلالها واصبحت تحل بدلاً عنها قيماً ثقافية اخرى مستمدة كذلك من تراثنا ومن تاريخنا وفي بعض الاحيان تشكلت نتيجة للمناخ السياسي والاجتماعي/الديني السائد والمعاش في ليبيا خلال العقود الاربع الاخيرة، مما قلل من شأن قيم التعلم واكتساب ادوات ثقافية يعتمد عليها الفرد في تكوينه الثقافي ليكون قادراً على صنع القرار والمشاركة بمسؤولية في الرفع من قيمة المجتمع، على حساب قيم ثقافية تمارس التسطيح وتنحو إلى تحويلنا إلى كائنات وظائفية هدفها تحقيق الحد الادنى من اسس الحياة من البقاء والاستمرارية وحفظ النوع من الانقراض.

ولعل الظواهر التي نرصدها في حياتنا اليومية في المجتمع الليبي، والتغيرات المتسارعة التي طرأت على القيم الثقافية التي اصبحت تسم غالبية نشاطتنا واحاديثنا وحتى مبادئنا الاخلاقية، اصبحت تطرح بقوة مسألة أن ما نعانيه من ازمات ليس سببه فقط اعلى الهرم السياسي والاجتماعي او نظريات تأمرية سحرية، او حتى قوى علوية، غيبية تتحكم في مصائرنا واقدارنا، بل ان الازمة اعمق من ذلك وتتزداد حضوراً بمزيد من الحفر في طبقات التراكم الثقافي في ليبيا، دون اغفال علاقة المشاكل كلها ببعض وتأثيرها على الحالة الثقافية السائدة في حاضرنا هذا.