الطريق تمتد كثعبان اسود لا ينتهي. يخرج رأسه من نافذة السيارة ويتأمل الخط الاصفر على جانب الطريق وهو يتواصل بلا كلل، يتعرج احياناً ولكنه يعود مستقيماً، تلفح وجهه الشمس المرتفعة في كبد السماء الصافية، الريح تضرب وجهه بقوة مثيرة شعره الطويل إلى الخلف، ادخل رأسه واعتدل في جلوسه على المقعد المجاور للسائق، حاول رفع زجاج النافذة بصعوبة لأن ذراع الرفع كانت نصف مكسورة، نظر امامه الطريق ثعبان اسود لا ينتهي والافق لا ينبئ بنهاية قريبة.
كان مقود السيارة يهتز بين يديه محاولاً التحكم فيها بصعوبة، مسح وجهه بيده اليسرى وتحسس لحيته الصغيرة النابتة ثم عدل من وضع قبعته التي تخفي تحتها شعره الاجعد الطويل الذي لم يحلقه منذ عام، لا احد يعلم لماذا لم يحلق شعره منذ عام، فقط هكذا كان هو، لا ينتظر سبباً للقيام بشيء، يترك للطريق ان تأخذه إلى مكان آخر دائماً، ألتفت إلي رفيقه فرأه يخرج رأسه من النافذة ويترك للريح تعبث بشعره، يطيل التحديق في الخط الاصفر على جانب الطريق لكنه سرعان ما يعيد بصره أمامه في انتظار انتهاء الافق الممتد غير بعيد عن ذروة الطريق اللامنتهي.
الطريق الاسود لا ينتهي والسيارة البيجو 504 الزرقاء الباهتة، تتقدم مخلفة وراءها المزيد من الكيلومترات، السائق يحدق في الافق يمسح وجهه بيده اليسرى ثم يعدل من وضع قبعته، بينما رفيقه في المقعد المجاور يخرج رأسه من النافذة تاركاً للريح حرية العبث بوجهه وشعره، السيارة تهتز باهتزاز العجلات التي اذابتها حرارة الاسفلت الخشن.

تتجاوز سيارة ضخمة البيجو من ناحية اليسار وتنطلق مسرعة كالسهم إلى ما وراء الافق وتختفي عن ناظري راكبي السيارة، ترتجف يدي السائق على المقود ويرفع بصره إلى اعلى الزجاج الامامي في محاولة للوصول إلى المرآة المثبتة في السقف عله يتبين المزيد من السيارات في المرآة، إلا انه يصطدم بقرص الشمس يتراقص، وتذكر انه اضاع المرآة في بداية الطريق، التي لم يعد يتذكر متى كانت، تمتم بصوت مسموع ” من يحتاج إلى ينظر إلى الوراء؟! يكفي الأمام”.

التفت رفيقه في المقعد المجاور ونظر إليه باستغراب وكأنه قام من اغفاءة قصيرة وتمتم بصوت مسموع “هل قلت شيئاً؟!” رد السائق “لا شيء.. لا شيء”، تابع رفيقه “اعتقدت أنني سمعتك تقول شيئاً..!” اردف السائق وهو يعيد تعديل قبعته فوق رأسه “لا يهمك، المزيد من الهذيان الاسفلتي”. تابعت الاعين التحديق في الطريق وصوت الريح وهي تصفر عبر شقوق نوافذ السيارة يزداد بزيادة سرعتها، بينما تصطك اجزاؤها المعدنية من اهتزاز العجلات على الطريق.
“كم مضى علينا في هذا المكان؟” قال السائق مخاطباً رفيقه الملتصق بالمقعد المجاور، الذي اخذ نفساً عميقاً ونظر إلى ساعة معصمه، كانت تشير إلى الثانية عشرة إلا أن عقرب الثواني كان متوقفاً، نقرها بسبابته عدة مرات إلا ان العقرب لم يتحرك، زفر بهدوء وقال بيأس “لا ادري يبدو ان الساعة توقفت عند منتصف الليل او منتصف النهار” اخرج رأسه من النافذة مجدداً ونظر إلى الشمس في منتصف السماء، وقال “اعتقد ان الشمس لا تتحرك من مكانها كذلك..!” رد السائق متسائلاً “ماذا قلت لم اسمعك جيداً” صاح رفيقه الذي اخرج رأسه من النافذة “قلت اعتقد ان الشمس لا تتحرك، وكأننا في منتصف النهار منذ وقت طويل” انزل السائق رأسه لكي يتبين الشمس في اعلى النافذة امامه، ثم عدل من جلوسه على المقعد وتابع تحديقه في الطريق وقال “يبدو اننا نسير في اتجاه الغرب، اننا نلاحق الشمس في غروبها لذا فإنها لا تتحرك”.

تجاوزت سيارة ضخمة أخرى البيجو بشكل مفاجئ وانطلقت كالسهم في اتجاه الافق لتختفي “انه سريع جداً، لقد فاجئني” صاح رفيق السائق باندهاش، ملتفتاً وراءه ناظراً إلى زجاج السيارة الخلفي إلا أنه تفاجأ بالركاب الجالسين في مقاعد السيارة الخلفية، خمسة مقاعد عليها خمسة ركاب بالتحديد، جميعهم يحدقون أمامهم دون ان تطرف اعينهم، ملامحهم المألوفة اعادت إليه سكينة مفقودة، حاول تبين الطريق المختفية وراء رؤوسهم لكنه اصطدم بسواد مظلم يغطي الزجاج الخلفي، اعاد النظر في الركاب الخمسة الجالسين بلا حراك، سمع السائق يقول له “لا تزعجهم، اعتقدت أنك تعلم بوجودهم معنا”.
سيارة البيجو الزرقاء بركابها السبعة تنهب الاسلفت الاسود الممتد كثعبان عملاق، تلاحق قرص الشمس المتوقف دائماً في منتصف السماء، وعلى جانبي الطريق يمتد خطان اصفران وراءهما افق رمادي بلا معالم اوملامح لا شجر، لا زرع، لا صخر، استواء ممل وخانق. تهتز العجلات فوق الطريق وكأنها تستعد للطيران أو كأنها تنذر بكارثة وشيكة، السائق يعدل من وضع قبعته فوق رأسه ورفيقه في المقعد المجاور يحدق في الركاب الخمسة في المقاعد الخلفية، والطريق لا تبشر بنهاية قريبة.

اعتدل رفيق السائق في جلسته
على المقعد، تابع تحديقه في الطريق الاسفلتي امامه حول بصره إلى السائق ثم إلى مطفأة السجائر التي امتلأت بالاعقاب المختلفة، البيضاء والبنية، كانت رائحتها المقززة ترتفع في حلقه، طأطأ رأسه فلمح زجاجات بيرة (بيكس) الفارغة بين قدميه وهي تحدث اصواتاً رنانة متوافقة مع اهتزاز عجلات السيارة… لم يعٍ ما حدث بعد ذلك، صوت انزلاق العجلات الحاد على الاسفلت والاهتزاز العنيف لهيكل السيارة المعدني بعد ان داس السائق على الفرامل بسرعة، ارتطم رأسه بالزجاج الامامي، فشعر بان الظلام يغمره لبضعة لحظات، ثم توقفت السيارة بعنف وساد المكان هدوء قاتل ارتطم رأسه بمسند المقعد حينها استعاد وعيه، فتح عينيه ليرى السائق ممسكاً بمقود السيارة وعينيه مثبتتين إلى الامام، نظر رفيق السائق إلى الطريق امامه ليرى جملاً ضخماً أو ربما كانت ناقة وهو أو هي تقف في منتصف الطريق لا تتحرك تلمع تحت الشمس الحادة تلتفت إلى السيارة وتنظر إليهما بعينين بنيتين عميقتين بينما تحرك رأسها ذات اليمين وذات اليسار، تحركت ببطء إلى جانب الطريق الايمن وتسارع خطوها حتى صارت تعدو في الافق الرمادي وكأنها تلاحق شيئاً صار بعيداً.

ألتفت رفيق السائق إلى المقاعد خلفه ليطمئن على حال الركاب الخمسة، وجدهم كم هم لا يتحركون ولا تطرف اعينهم يتابعون التحديق أمامهم دون ملل، التفت إلى السائق وقال “لم تخبرني إلى أين نحن ذاهبون؟، ومن هؤلاء الجالسون في المقاعد الخلفية؟ ولماذا…؟” قطع طريق اسئلته صوت المحرك وهو يدور ثم يتوقف بحدة، حاول السائق تشغيل المحرك عدة مرات وفي المرة الاخيرة انطلق وداس على البنزين بقوة لكي يستمر في الدوران استعد لكي ينطلق من جديد وضع ذراع السرعة في مكانها إلا أن المحرك انطفأ مرة اخرى، حاول السائق تشغيله مرة اخرى ولكنه لم يستجب. التفت السائق إلى رفيقه وقال “يبدو ان المولد لا يعمل عليك ان تنزل وتقوم بدفع السيارة من الخلف بينما أحاول تشغيل المحرك” رد رفيقه “هل سأقوم بدفع السيارة لوحدي، ماذا عن هؤلاء الخمسة بالخلف لما لا ينزلون ويساعدوني سيكون الامر اسهل؟!” زفر السائق واخرج سيجارة من علبتها واشعلها ثم عب منها نفساً اخرج منه القليل، “ألم اخبرك لا تزعجهم، يبدو انك نسيت اتفاقنا منذ البداية” فتح رفيقه باب السيارة واردف قائلاً “عن اي اتفاق تتحدث، أنا لا اتذكر حتى اين نحن وإلى أين نسير؟!!..” فاجأهما نقر متتابع على زجاج السيارة الخلفي. توقفا عن الحديث والتفتا إلى الجانب الايسر للسيارة ليلمحا رجل بملابس بيضاء لامعة وهو ينقر على جسم السيارة المعدني بيده حتى اقترب من باب السائق وانحنى ليظهر وجهه الاسمر المألوف من وراء الزجاج واشار بيده للسائق ان ينزل زجاج نافذته إلا أنه بدلاً من ذلك فتح الباب واخرج رأسه، اقترب الرجل من وجه السائق وهمس في اذنه ببعض الكلمات التي لم يتبينها رفيقه، هز السائق رأسه عدة مرات وكأنه يؤكد على معلومة ما بينما رفع الرجل حاجبيه وارتسمت على وجهه ابتسامة طفولية بريئة.

أغلق السائق بابه، وسحق سيجارته في مطفأة السجائر الممتلئة بالاعقاب المختلفة ثم ألتفت إلى رفيقه وقال آمراً “انزل من السيارة وقم بدفعها لكي استطيع ان اشغل المحرك” خرج رفيق السائق الذي كان يجلس بالمقعد المجاور له من السيارة واتجه إلى مؤخرتها ليرى الرجل بملابسه البيضاء اللامعة وما تزال ترتسم على وجهه ابتسامة طفولية بريئة وضع الرجل يداه على جسد السيارة الخلفي واستعد لدفعها بينما قام رفيقه الذي كان يجلس في المقعد المجاور للسائق بوضع يديه على مؤخرة السيارة كذلك، كانت رؤوس الركاب الخمسة تظهر من خلال الزجاج الخلفي بلا حراك، اشار السائق بيده لهما بأن يدفعا السيارة بقوة، راحت اقدامهما تتسارع وتدفع السيارة ببطء في البداية ثم تسارعت في سيرها على الطريق الاسفلتي الاسود، احسا بالسائق وهو يشغل المحرك ويدوس على البنزين ليدور المحرك بقوة وتخرج سحابة دخان اسود من العادم. توقف الرجل ورفيقه في منتصف الطريق حتى تختفي السحابة، لمحا سيارة بيجو 504 زرقاء اللون وهي تنطلق مسرعة ناحية الافق فوق الطريق الاسود الممتد بلا نهاية، ابتعدت حتى اختفت.

الطريق ثعبان اسود طويل يلتف حول ساقيه ويجبره على مواصلة السير إلى الامام لم يكن للخلف مكان في هذا الاستواء الرمادي الخانق، تكات عقرب الثواني تتواصل في الصدى، التفت إلى رفيقه المبتسم بطفولة بريئة وسأله بخفوت “إلى أين نحن ذاهبون؟”.

لندن
مايو 2008