عندما تتوقف الرتابة عن اجترار ايامها المتكررة يحدث أن اجدني بعيدا عن صخب المستشفيات وفوضى الاوراق البحثية المتناثرة، لاصحو على يوم لا عمل فيه ولا كسل وليكن ذلك في الساعة الواحدة فجراً، وهذه الواحدة ليست تلك التي يغشاها الظلام ولكنها تلك التي اتفق عليها البشر غريبي الاطوار بالواحدة ظهراً والشمس في كبد السماء أو عندنا في لندن وراء الغلالة الرمادية والبيضاء للغيوم.

أصحو ليكون أول الطقوس التأكد من أنني لم انتهك حرمة هذه النومة المباركة ناظرا إلى ساعتي الموضوعة بجانب الفراش، وارتاح إلى أنها تجاوزت الواحدة بكثير، ألحظ أن هاتفي النقال تتلاحق اضواؤه المنبهة لوجود مكالمة لم ارد عليها أو رسالة لم أقرأها، أرفعه واتأكد من من الغرباء تذكر الاتصال بي في ساعة مبكرة، ألقي به فوق الغطاء.
امد يدي إلى جهاز الحاسب المحمول واستغرق في دائرتي الأولى نحو العالم السفلي، ففي يوم الراحة السابع يتحتم علي ان اكون دوائر من الافعال والاقوال التي تعيد لي توازني الآدمي، لكي يصبح من السهل علي أن أتابع الايام الستة الأخرى، والدائرة الأولى هي تمضية ساعة مستلقياً على الفراش اتأكد من حسابات بريدي الالكتروني المتعددة.. ارد على هذا وابعث برسالة لذاك.. اتأكد من المدونات في جولة صباحية اولى ثم ادخل لمدونتي لأرى ماذا حدث خلال الليل من تعليقات واضافات على المواضيع الجديدة.. أدخل المواقع الاخبارية لاتأكد من العالم لم ينته خلال نومتي وأنه لم يزدد مائة سنة وأنا فاقد الوعي، لاكتشف أن لا شيء يدعو للتشاؤم، فالحال على ما هو عليه المزيد من الصخب والمزيد من الجثث والمزيد من اللامبالاة.
بعد الدائرة الاولى أخرج من تحت الاغطية، افتح الستارة وانظر إلى السماء بعين متفائلة أن ترى الشمس هذا الصباح.. معذرة هذه الظهيرة.. لا أمل، فقط بياض ورمادية تنعكس على اشجار خريفية وامتداد من الاخضرار للحديقة خلف المنزل.. أحمل منشفتي وامضي لدائرتي الثانية.
تحت المياه الساخنة المتدفقة اجدني اتبدد واذوب ليختفي جزء مني في البالوعة، اضع تصوري لما تبقى من هذا اليوم واخرج لأرتدي ملابسي استعداداً للخروج فالبيت يمتلئ بالاشباح والشياطين التي تمنعني من العمل في يوم راحتي، انظر لنفسي في المرآة، الدوائر السوداء تحت عيني تأبى أن تختفي رغم النوم، افرك ذقني بيدي فاجدها خشنة قليلاً، لا يهم فمن يعبأ بحلاقة ذقنه في هذه الظهيرة.
أنزل المطبخ، أعد فطوري بينما استمع لإذاعة البي بي سي القناة الرابعة، وقد يتصادف أن تكون بداية الساعة فاستمع لموجز الانباء المحلي أو ربما استمع لتمثيلية اذاعية، بعد الانتهاء من هذه الدائرة الثانية، ارتدي معطفي وانتعل حذائي واسرع بالخروج إلى العالم.
أصل محطة قطار الانفاق واستقله مع الاخرين الذاهبين إلى وسط مدينة لندن، افتح كتاباً بدأته قبل عدة اشهر ويأبى أن يكتمل فمنذ زمن وأنا أقرأ بالعرض، خمسة أو ستة كتب في نفس الوقت، عشر صفحات من هذا وعشرة من ذاك وبالكاد سأجد الوقت والعمر لقراءة كل الكتب التي اتمنى الاطلاع عليها. هذه دائرة ثالثة تنتهي بوصولي إلى محطة راسيل سكوير بوسط المدينة.
قبل مدة ليست بالطويلة اصبح مكاني المفضل، مقهى بالقرب من المتحف البريطاني. المقهى ملحق بمكتبة لندن ريفيو أو بوكس والتي تشرف وتصدر احد اهم الملاحق النقدية والادبية (ملحق لندن للكتاب) London Review of Books. المقهي يرتاده عدد من الكتاب والصحفيين الانجليز، اتيتها أول مرة مع صديقي رامز النويصري، لأصبح بعدها زبوناً دائماً للمكان، اجلس ساعة أو ساعتين، اكتب نصاً جديداً، اعد جدول أعمالي للأسبوع المقبل، اكمل بعض الاشغال على الحاسب المحمول واتأمل الجمال الداخل والجالس بالمقهى، اطلب قدحاً من الكابتشينو وقطعة من الكعك، انتهي من دائرتي الرابعة بانتشاء واعود ماشياً مع نهاية النهار.
قبيل السادسة بقليل اتجه إلى محظة كنجز كروس الرئيسية احشر نفسي مع اللندنيين العائدين من اعمالهم المملة في عربات السردين وأتأمل البشر من حولي بحثاً عن افكار جديدة أو ربما…………………
أصل البيت فأجد أن الاشباح والشياطين قد تلاشت مع قدوم الظلام، افتح التلفاز على القنوات الانجليزية، فالقنوات العربية لا تمنحني سوى ذبحة صدرية قاتلة، فقط القناة الليبية من تعيدني إلى واقع يصعب الهروب منه.
اصل إلى دوائري المسائية الثلاث.. اعد عشائي الذي استمتع به، فالطهي هواية اصبحت محترفاً فيها، انها تمتص القلق الذي يعشش في مخي، اعد مائدتي فيما اشاهد فيلماً سينمائياً جديداً أو حلقة اعدت رؤيتها للمرة الخامسة ربما من مسلسل المافيا (سوبرانو).. ما أن تنتهي دائرتي الخامسة حتى ألمح أن عقارب الساعة تقترب من منتصف الليل..
حان الوقت للدائرة السادسة.. اصعد حجرت
ي، استلقي على الفراش.. اضع السماعات في اذني، انصت إلى احد البرامج الاذاعية المسجلة، أو بودكاست جديد، أقرأ الاخبار المسائية على الانترنت وأبعث رسائل على الايميل، اضيف شيئاً على المدونة.. اغلق المحمول بعد بضعة ساعات، إنها تقترب من الثانية بعد منتصف الليل.. لا جديد.. ألقي نظرة على الكتب المتراكمة بجانب الفراش تنتظر أن احررها من مكانها.. اطفئ الانوار..
اغرق تحت الاغطية، اصوات الريح والامطار بالخارج لا تمنحني نوماً هادئاً، اعدل من وضع السماعات في اذني، هذه هي دائرتي السابعة والاخيرة، اجدني اقترب من العالم الذي لا يتحقق إلا بالحلم.. قبل أن ادخل ذاك المكان ألمح أضواء ساعتي تتوهج، إنها الرابعة.. حان وقت النوم..
___
· استدراك: للأسف سقطت بعض تفاصيل هذا اليوم واختفت بعض معالمه ولا اتحمل أي مسؤولية في ذلك لذا وجب التنويه والاعتذار.