يعدو مسرعاً.. الأشباح تلاحقه، الجنون ينخر عقله، مرت ثلاثة أيام لم يقترب فيها من الماء.. وتلك الأطياف لا تفارقه، يستلقي على الرمال الملتهبة تحرق جلده، يتساقط الشعر عن بطنه وصدره.. يلهث، الضوء المبهر يزعجه، راح يعدو حتى بلغ ملتقى النهرين، هناك وصلته رائحة نفاذة، حركت غريزته للأكل، مضى حتى بلغ صخرة على ضفاف الشاطئ، آثار أقدام ليست بالقديمة لشخصين كانا هنا قبل بضع دقائق.. رأى قفة على حافة الصخرة تهتز، اقترب منها، شمها، ألقى بالغطاء من على القفة، كانت السمكة تتقافز بعد أن دبت فيها الحياة من جديد، وفجأة طارت في الهواء، نظر إليها وهي تعلو فوقه وتتجه صوب الأمواج، ثم اختفت… راح يلوك ما تبقى من اللحم في فمه، باصقاً الأشواك حتى لا يختنق بها.

تناهى إلى سمعه أصوات قادمة.. جرى مسرعاً وراء الصخرة مختفياً عن الأنظار، رأى رجلين قادمين أحدهما كهلٌ يتوكأ على عصاً غليظة بينما الآخر فتىً يرتدي ملابس متواضعة.. وقفا عند قمة الصخرة، شاهدهما يتناقشان ولكنه لم يتبين ما يقولانه سوى بضع كلمات لا معنى لها. رآهما يعودان من حيث قدما.. تبعهما دون أن يلفت إليه الأنظار، مازالت دماء السمكة تلمع على شفتيه الورديتين، ظهر من وراء الأجم رجلٌ بهي يتهادى في مشيته، توقف الرجلان الأولان ليتبادلا الحديث مع الرجل البهي هذا. لم يمر الكثير من الوقت حتى مضى ثلاثتهم نحو الشرق.

أسرع يلاحق مسير الرجال وهم يتجهون إلى إحدى المدن القريبة من النهر، لايزال طعم العظام التي التهمها قبل بضعة أيام يعود ليسبب له الغثيان.. “متى أتخلص من هذا الطعم القاتل..؟!! سأجن إن لم أجد حلاً..” ما إن وصل بالقرب من المرفأ حتى رأى مجموعة من الأطفال يلعبون بالكرات الزجاجية بينما أهلهم يستعدون لصعود إحدى المراكب التي تتجهز للرحيل.. شاهد الرجال الذين يلاحقهم يصعدون المركب فصعد في إثرهم واختار ركناً قصياً ليختبئ فيه، انطلقت السفينة تمخر الأمواج، وبينما هو كذلك رأى الرجل البهي يتسلل إلى باطن المركب، لحق به، وراقبه وهو يحدث خرقاً في جسمها ليتدفق الماء، وفجأةً تقلب الجو وهبت العاصفة وبدأت نذر غرق المركب وشيكة، وقف الجميع على ظهره، يتباحثون الأمر، صاح القبطان “أيها الناس، قد سلطت علينا اللعنة، فما نملك سوى أن نلقي بقربان إلى النهر حتى نصل سالمين إلى الشاطئ” وقف الرجال الثلاثة الذين يراقبهم مع الجميع ولم ينبسوا ببنت شفة، واصل القبطان كلامه”سنختار رجل النحس الذي بيننا ونلقي بشؤمه إلى البحر” ارتعدت الفرائص وهي تستعد لاستخراج الأوراق من الكيس، كل منهم يختار ورقة مطوية ويسير إلى مصيره، بعد أن أخذ الجميع كافة الأوراق أعطيت الإشارة لفتحها، واحدة فقط كانت تحوي علامة تدل على أن الاختيار قد وقع على هذا الشخص، التفت الجميع إلى رجل سقط من هول مصيبته، رأوا الورقة تسقط من يده وبها العلامة، اقترب الجميع منه وألقوا به في غياهب العاصفة المتلاطمة وغير بعيد شاهدوا حوتاً ضخماً يبتلعه. سمع أحد الركاب يتمتم “لا بد أنه قد ارتكب إثماً عظيماً ليكون حظه بها السوء“.

وصلت السفينة إلى أحد المرافئ، فنزلت منها بعض العائلات والرجال الثلاثة كذلك.. تمكن من اللحاق بهم قبل أن يرى الرجل البهي وهو يخطف غلاماً ويجري مسرعاً به إلى إحدى الأزقة. بدا أن الغلام غير منزعج مما يحدث، وما هي غير لحظات حتى التفّت يدا الرجل البهي حول عنقه الدقيقة ليختنق ويفارق الحياة.. هنا لم يستطع أن يمنع عواءه فأطلقه ليصدح بين الجدران، أسرع الرجال الثلاثة بالهرب إلى القرية المجاورة، بينما كانت المارة تقترب من جثة الطفل المغدور به.. وأعلن في كافة القرى أن هناك قاتلاً هارباً لذا فليأخذ الناس حذرهم ولا يستقبلوا الغرباء..

كان الثلاثة يبحثون عن مكان لقضاء بقية اليوم، ولكن الأبواب كانت مغلقة في وجوههم وأبى الجميع أن يستقبلهم، سار وراءهم وهم يهمون بالخروج من القرية حتى وصلوا موضعاً به بعض الخرائب. وقف الرجل البهي وبدأ يأمر الآخرين بترميم أحد الجدران المتهالكة ومع آخر النهار أتموا العمل.. حدث نفسه “لما قاموا بذلك، لابد من أن هناك سراً وراء هذا الجدار.. عليّ الانتظار حتى يذهبوا لكي استجلي الأمر” رآهم يرحلون تاركين الجدار.. اقترب من المكان راح يمرر أنفه على الأرض حول الجدار عله يميز رائحة ما.. لا شيء.. بدأ ينبش حافة الصخور في منتصف الحائط، يحفر بكل قوة ويلقي بالتراب والحصى وراءه برجليه.. صور المشانق والمحارق تلاحقه.. ظلام الكهف لم يفارقه بعد.. خدشت مخالبه صندوقاً متوسطاً، أمسك أطرافه بأسنانه وجره خارج الحفرة.. أزال التراب عنه بأنفه ثم كشف الغطاء ليرى الذهب والجواهر تلمع بخفوت في هذا الغسق.. أحس برغبة في العواء ولكن الرجال الثلاثة لم يبتعدوا كثيراً.. كتم صوته وفكر بإخفاء الكنز في موضع آخر لا يعرفه أحد، وجد بيتاً قديماً بالقرب من المكان راح يحفر في أحد الأركان حتى وصل العمق المطلوب، هناك ألقى بالصندوق وطمره وأعاد التراب كما كان.. ثم عاد إلى الجدار وأغلق الحفرة القديمة وأعاد المكان لما كان عليه..

رأى الشمس في الأفق، آخذة بالغروب بينما ما تبقى من شبح الرجال الثلاثة قد تفرق إلى جزأين، اثنان يتجهان غرباً وواحد يتجه شرقاً.. شعر بالمرارة من جديد وراح قلبه ينتفض وحنين نحو ظلام الكهف يجبره على التراجع والعودة من حيث أتى.. أسرع الخطى شمالاً.. مع آخر الليل اقترب من التلة، أمام المدخل وقف ليتطلع إلى الصحراء.. شعر برغبة في الموت.. ثقل رأسه، بسط ذراعيه على الأرض وبدأ جفناه بالتتثاقل.. كان آخر ما لمحه، رجل بهي فارع الطول يخرج من الأجم وفي يده صخرة كبيرة تستعد لأن تسقط على رأسه

________________________

*  ما حدث قبل البقية.
** نشرت بالمجموعة القصصية (وجه لا يعرف الحزن) – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – 2007.