يعد الروائي الجنوب افريقي (جي ام كوتزي) المتحصل على جائزة نوبل للآداب العام 2003 من الروائيين الذين اثاروا ومازالوا جدلاً في الاوساط النقدية الادبية حول اعماله الروائية واهميتها. فهناك بعض النقاد والمطلعين من يعتبر روايات كوتزي تفتقد للاثارة والمشاعر، وانها لا تتعامل مع المشاكل السياسية والاجتماعية التي تطرحها بشكل اكثر مباشرة ووضوحاً. إلا أنني اجدني من كل مرة اقرأ فيها رواياته منهمكاً على متابعة احداثها وشخوصها بطريقة تجعلني استغرب احياناً لماذا تثيرني وتمنحني كتابات كوتزي هذا النوع من الاهتمام والمتعة.

وفي روايته الاخيرة الصادرة العام 2009 والمعنونة (الصيف: مشاهد من حياة ريفية) (Summertime: Scenes from Provincial Life) والتي ترشحت للقائمة النهائية لجائزة مان بوكر للرواية العام 2009 والتي سبق أن فاز بها كوتزي مرتين، يستفيد كوتزي من تقنية استحدثها من روايته الاخرى (اليزيبث كوستيلو) الصادرة العام 2003، وهي تقنية تقطيع اجزاء الرواية أو النص الادبي من خلال فصول منفصلة إما في شكل مقالة أو حوار صحفي أو نص لمحاضرة اكاديمية، والتي يعرض من خلالها مفهومه للفكرة المركزية للنص. إلا ما يجعل روايته (الصيف) متميزة ومختلفة، هو انها تعتمد ايضاً على تقديم جزء من السيرة الذاتية للكاتب والتي نشر منها كتابين هما (صبا: مشاهد من حياة ريفية 1) العام 1997، و(شباب: مشاهد من حياة ريفية 2) العام 2002.
نتعرف من خلال (الصيف) على صحفي انجليزي يعمل على اعداد كتاب عن حياة الكاتب والروائي الراحل خيالياً (جون كوتزي)، ونلتقي من خلال فصول الكتاب على مجموعة من الشخصيات التي كانت لديها علاقة بالكاتب الجنوب الافريقي الراحل خيالياً خلال فترة معينة من حياته وهي فترة منتصف السبعينات من القرن الماضي، والتي كان فيها كوتزي قد عاد فيها إلى كيب تاون من الولايات المتحدة بعد طرده من هناك نتيجة نشاطه السياسي، ونقرأ النص الكامل للحوارات التي اجراها الصحفي مع (جوليا) وهي سيدة جنوب افريقية تعيش حالياً في كندا كانت على علاقة عاطفية مع الكاتب في العام 1972 عندما كان كوتزي في الثانية والثلاثين من العمر، يسكن في كوخ متهالك مع والده المسن ويعمل بشكل مؤقت في تدريس اللغة الانجليزية.
ثم نلتقي في حوار سردي مع (مارغوت) ابنة عمة كوتزي التي تروي علاقتها به عندما كانوا اطفالاً، وتحاول الغوص لاستكشاف من يكون جون كوتزي كإنسان، يفتقد للكثير من المشاعر الدافئة والحميمة ورغبته في العيش في منطقة نائية وفقيرة من جنوب افريقيا مع والده المتقاعد. ثم يلتقي الصحفي مع (ادريانا) وهي راقصة باليه من البرازيل ساقتها الاقدار للعيش في كيب تاون منتصف السبعينات وتوفي زوجها في حادث اعتداء خلال عمله كحارس ليلي، وتعرفت على جون كوتزي من خلال ابنتها الصغرى التي كان يعطيها دروساً خاصة للغة الانجليزية، وتعترف من خلاله أن كوتزي إنسان بلا مشاعر ولا يعرف معنى الحب، وتستغرب كيف يكون مثل هذا الانسان البارد والغريب قادراً على الكتابة الادبية وكيف أنه استطاع الفوز باعتراف ادبي عالمي بتميزه الروائي.
واخيراً نلتقي بكلاً من (مارتن) و(صوفي) وهما كانا زملاء مع كوتزي خلال فترة عمله في التدريس الاكاديمي باحدى جامعات جنوب افريقيا، ويكشف الحوارين علاقة كوتزي مع زملائه في العمل ووجهة نظره في الادب العالمي، وجنوب افريقيا والعلاقة بين البيض والسود في البلاد، وعلاقته بلغة (الافريكانس) التي يستعملها المواطنين البيض وذوي الاصول الاوروبية في جنوب افريقيا وهي مزيج من اللغة الهولندية اساساً مع بعض الالمانية والانجليزية.
وتنتهي الرواية كما تبدأ باجزاء من مذكرات الكاتب الراحل (جي أم كوتزي) بحسب الرواية، وهو ما يجعلها الجزء الثالث من سيرة الكاتب الذاتية التي قدمها من في جزئيها الاولين (صبا) و(شباب)، وهي تغطي مرحلة منتصف السبعينات من القرن الماضي وفي فترة كان الكاتب فيها يبحث عن هويته الخاصة من خلال البحث عن الهوية الجنوب افريقية وعلاقته بهذه البلاد، وسبقت بقليل اصداره لأولى اعماله الروائية (داسكلاندز) (Dusklands) الصادرة العام 1974، كما أن جميع من اجريت معهم الحوارات وهم اربع نساء ورجل واحد، اثروا بشكل مباشر أو غير مباشر في حياة الكاتب، ومنهم من كان مصدر إلهام اساسي لكتابة رواياته اللاحقة وخاصة النساء الاربع اللواتي عاصروه في تلك الفترة من حياته، كما أن كوتزي، اختار أن يكون متوارياً بالكامل في هذه الرواية خلف الموت، واختار أن يكون الحديث عنه بصفته الغائبة نتيجة وفاته المفاجأة العام 2007 كما يسرد الكتاب.
ما يعجبني في كوتزي أنه لا يسعى إلى تقديم عمل روائي عملاق وضخم كما هو حال الكثير من الروائيين المعاصرين، فهو يستعمل لغة مكثفة بعناية ومعظم اعماله لا تتجاوز الثلاثمائة صفحة. كما أن شخوصه مرتبكة دائماً، وابطاله ليسوا ابطالاً، بل إنهم لا يثيروا في انفسنا سوى مشاعر الشفقة واحياناً الاستياء والرفض، فهم شخصيات منسية مهمشة، ليست لديها أية اهمية في حياة الرواية، كما أنهم لا يحملون اي من انواع مشاعر الاثارة أو الدفء، وربما هذا يشكل انعكاساً مهماً لشخصية كوتزي الحقيقية، فهو من الكتاب القلائل، برغم شهرته الواسعة، يكره الاضواء ومن النادر ان يجرى معه حوار صحفي أو اذاعي أو متلفز كما انه رفض حضور حفلات توزيع الجوائز الادبية العديدة التي فازت بها اعماله، وهو ما يضفي المزيد من الغموض على شخصيته الغريبة والتي تبدو جلية من خلال الحوارات الصحفية في رواية (الصيف) والتي يقوم كوتزي بتعرية الذات فيها إلى اقصى حدودها، حتى يصل إلى جوهره الحقيقي كإنسان عادي لا يسعى إلا أن يكون من هو بلا تجميل وبلا اقنعة.