OLYMPUS DIGITAL CAMERA

كنت أحاول أن أدخل في جمجمتي الصغيرة كلام الله عندما طرق صديق طفولتي الوحيد “عبسي” باب منزلنا ينادي باسمي، تركت المصحف، أسرعتُ تجاه باب المنزل والبسمة تعلو محياي، كان “عبسي” لا زال يستحثني عندما فتحت له الباب، منظر طفولي عام، لوح التحفيظ المزروع تحت إبطه الأيمن قد جعل من كتفه الأيمن أعلى قليلًا من كتفه الأيسر، القبعة التي لا يتركها أبدًا، عينان سودوان تفيضان منهما رجولة طفولية، شعره الناعم رغم انحداره من عائلة بسيطة الحال يفيض لمعانًا، وجهه كالحجر الكريم مخفي بالطين، أنفه المعقوف سر وسامته، وثغره الذي يختبئ به لسان “يرفعك ويجيبك”. يرتدي قميصًا أبيض مشوبًا بعمليات الغسيل المتكررة، شُورتًا قصيرًا إلى ما بعد ركبته بقليل، قدماه المليئتان بالغبار تستجيران بصندلٍ أسود مصنوع من جلدٍ رديء الجودة من غدر الحجارة.

“عبسي” كان حالة وجدانية خاصة، لم أكن قد استطرفت الحياة لولا وجوده بين ثناياها، خصاله لم تكن لتتغير قيد أنملة منذ أن عرفته، عصامي منذ أن كان يستشف الحليب من ثدي والدته المنهَكَة، ملامحه تدل على خشونة، الانطباع الأول الذي سيتركه فيك هو أنّه غير قابل للمزاح بأي طريقةٍ كانت لكن ما إن تقترب من قلبه أكثر حتى تعرفه على حقيقته. باشرته التحية بابتسامة عريضة، استحثني بأن أسرع في ارتداء ملابسي.

لا أعرف لماذا يسمي النّاس الكُتّاب بالخَلوة، لكن عندما يطرأ الاسم في أذني كنتُ دائمًا ما أتخيل خلية من النحل تعمل بلا كلل في طنين مستمر، ملكة النحل في هذه الخلية هو الشيخ الذي غالبًا ما يكون رجلًا خمسينيًّا بلحية غير منتظمة مشتعلةً بالشيب، يجلس في الغالب بإحدى الزوايا حيث يمكنه الإطلاع على كافة التلاميذ دون أن يروه، بجانبه عصا تختلف مع اختلاف مزاج الشيخ، بعضهم يفضّل الخيزرانة، بعضهم يختار عصاه من جذع ليمونة، بعضهم يكتفي فقط بشظية من أنبوب المياه مصحوبةً بالفلقة، في بعض الخلوات يستعين الشيخ ببعض الطلبة المتقدمين لتدريس الأطفال والمستجدين، بعضها يكتفي الشيخ بتدريس الأطفال. كانت خلوتنا واقعة خلف مسجد الحي العثماني العمارة والتي تزخر في فصلِ الصيف بكمٍّ معقول من أطفال الحي، حيث يبعث الأهالي أبناءهم ليتخلصوا ولو لبضع ساعات من صداعهم أو كما يقولون “باش يتعلموا كلام ربي”، كنت في طفولتي أتساءل لماذا يصنع “ربي” بنا هذا، كنت أقول “أتمنى أن يعلم ربي أننا نقاسي الأمرّين في المدرسة”.. كنت أعتقده شخصًا ما، أحببته كما تقتضي العادة، وكما تسألني أمي مؤكدةً لقريباتها أن ابنها يتحلى بصفات المؤمن الحقيقي “تحب ربي وإلا الشيطان؟”، أغوص في سلسلة من التخمينات.. أقول “هممم … الشيـ..”، تبادلني أمي نظرة بها شررٌ ما، أسارع في تصحيح معلومتي صائحًا  “ربّي”، هكذا كانت البداية.. وبعدها تعلمت أن أحب ربي وأن أكره الشيطان.

كان شيخ خلوتنا الذي يتباهى بأنه ممثلٌ لربي في هذه الأرض شابًا ثلاثينيًّا كثَّ اللحية، به سِن “كلاها الفار” كما كانت أمي تقول.. أتذكر أنه “القاطع “لكن” عبسي” يصر أنه أحد “الأنياب”. لم يكن يشكِّل السن المفقود أي تغيير حيال موقفي من الشيخ “حمزة” والذي تكاثرت حوله الشائعات بأنه “متاع فروخ” أو كما يقول لسان العرب “لوطي” وكما يقول لسان الحداثة “شاذ جنسيًّا “لا يستعمل ذكره إلا في اغتصاب الأطفال، هكذا قالت الشائعات.

لم أكن أعي ماذا تعني كلمة مثل “متاع فروخ” في القاموس اللغوي خاصتي. كنت أعتقد أن سبب التسمية كان ميل شيخنا لتحفيظ الأطفال عوضًا عن غيرهم.. لذا لم أعر الموضوع أي اهتمام.

جلستُ أنا و”عبسي” بإحدى الزوايا نستذكر الدرس الفائت، أقوم أولًا بتلاوة ما حفظت على مسامعه وهو يتتبع الآيات بلا مبالاة، أخطئ.. أتدارك خطئي لكنه لا ينبهني، أسحب من بين يديه اللوح خاصتي، أبحث عن الخطأ. ثم أغضب في وجهه وأبحث عن أحدهم أتلو عليه الآيات من جديد بينما “عبسي” يبتسم بمكر.

في حركات كالرقص من الخلف إلى الأمام يتذاكر الأطفال آياتهم، يدخل شيخنا “حمزة “الخلوة بإزار ينتهي عند أعلى كعبيه بقليل، يفرك أسنانه بالسِواك، تفوح منه رائحة المسك والياسمين، يُطلق التحية، تهدأ خلية النحل قليلًا لترد السلام، يبحث في وجوه الأطفال، ثم يبحث عن كراسه مراجعًا أسماء الغائبين بالأمس، مدونًا أسماء الغائبين باليوم. كان واضحًا من تصرفاته وتشنجه أنّه مُثار جنسيًّا، يتحسس أطراف من غاب وكأنّه يرضي غريزة تنهش عظامه، يستمتع بتأوهات التلاميذ وكأنه يعيش الوهم الذي يصنعه. كان هنالك طلاب ينالون “الحظية “و”القرب” منه.. لا يعاقبهم، لا يؤنبهم، وأحيانًا لا يلتفت إذا ما قاموا بتسميع ما حفظوه أو لا. كان واضحًا أن أمرًا سريًّا يدور فيما بينه وبينهم. لم يعِر أحدهم الاهتمام لهذا الموضوع، لم أعره أنا أي اهتمام إلا بعدما فتح “عبسي” عيني عليه، وقال لي: “لابد أنّ هناك أمرًا ما!”.

قررنا بعد الانتهاء من الدرس أن نستكشف الأمر من أحد المقربين للشيخ، كان غالبًا ما يتأخر عن الخروج بحيث يبقى آخر التلاميذ، جلسنا أنا و”عبسي” ننتظره خارج المسجد ريثما يخرج، طال الوقت بالانتظار، لذا قررنا أو قرر “عبسي” أن يستكشف الأمر.. كان هنالك منفذًا واحدًا فقط يمكن أن ترى منه ما يدور داخل الخلوة دون أن يشعر بك من بالداخل، كان ذلك المنفذ مرتفعًا قليلًا، لذلك بقليل من الحيلة وبالكثير من الجهد مني صعد “عبسي” فوق كتفي بحكم أني أفوقه قوة ويفوقني رشاقة، عندما وصل لارتفاع يمكنه أن يرى بوضوح، كنت أتصبب عرقًا.

  • ما الذي يحدث؟ سألته وقد كلّ متني.
  • لا أرى شيئاً، لحظة فقط. جاوبني “عبسي” وهو يدور بنظره داخل “الخلوة”.
  • آه.. حسناً، ما الذي يحدث؟
  • ………
  • ماذا؟
  • ……

ظلّ “عبسي” في صمته، وفجأة سقط من فوقي محدثًا قرقعةً واضحة، ظل لحظات يتحسس موضع الصدمة، يحاول أن يكبت ألمه وأنا مشدوه مما يحدث، قلت له وأنا أحاول لملمة نفسي ومعرفة ما جرى له:

  • ماذا حدث، ماذا رأيت؟
  • كشفني، رآني!
  • من؟
  • الشيخ.. الشيخ رآني!

قالها وهو يرتجف، وقد تفصد عرقًا ونزّ ساعده عن جرحٍ طفيف ..

  • وماذا رأيت أنت؟
  • رأيته، كان عارياً!
  • من؟ الشيخ؟
  • كان يفعل شيئاً غريباً، وكأنه يتبول داخله!

لم نكن نعرف ما يعني “الجنس”، كانت هذه أولى المرات التي نتعرف عليه، كان كما وصف لي “عبسي” غريبًا جدًّا، مُريبًا. دارت أفكارنا في أشياء غريبة.. قلت لـ “عبسي” حينها :

  • لابد لنا أن نعرف ماذا كانوا يفعلون!
  • كيف؟
  • لا أعرف، ولكن ما أعرفه أننا يجب أن نعرف.
  • ما رأيك لو قمنا بسؤاله؟
  • إممم …

اكتفينا بالاختباء في مكانٍ ما بسرعة حتى لا يشك بنا الشيخ. عندما فرغ من الفتى، سلك الأخير الطريق الاعتيادي له للعودة، كنا نتتبعه دون أن يحس بنا، وعندما دخل أحد الأزقة، أسرعنا أنا و”عبسي” وراءه. ناديناه باسمه. ارتبك جدًّا، كان يتفصد عرقًا وعلاماتُ القلق تتسربل في سحنته الأنثوية. أمسك “عبسي” بكتفيه ثم قال له:

  • ماذا كنت تفعل مع الشيخ في الخلوة؟ قل!!

تلكأ الفتى في الإجابة، بدا مرعوبًا جدًّا، قال وهو يأكل الحروف أكلًا:

  • من أنا؟ لا … لا شيء.
  • كيف تقول لا شيء وقد رأينا كل شيء؟.. قلتُ له.
  • نعم، كيف ؟ سأله “عبسي” متظاهرًا بالعصبية.
  • وحق ربي لا شيء! أجاب الفتى وقد بدأت ملامحه تتغير إلى الخوف الشديد.
  • علي أنا؟.. أطلق “عبسي” ضحكة استفزازية.

بعد أخذٍ وردّ، وتهديد بالضرب خنع الفتى لأسئلتنا الملحة قال لنا “كنا نمارس الجنس!”. جحظت عيناي أنا و”عبسي “مستفسرين عن معنى الكلمة، قال الفتى “زي اللي يديروا فيه ماما وبابا باش يجيبونا “. كنت أفكر في ماذا يعني الفتى بألغازه التي يطرحها أمامنا، عندما قال له “عبسي “مهددًا:

  • نريد مثله! أو أننا سنخبر والدك.

عرفت حينها أن “عبسي” توصل لحل اللغز، وأن الأمر قد راقَ له، قلت موافقًا دون أن أدري عن ماذا نتحدث:

  • نعم، نريد حصتنا..
  • أرجوكما، دعاني فقد تأخرت عن البيت، سأشتري لكما حلوى وشكلاتة أعدكما. استمر الفتى في الترجي.
  • لا.. إننا نريد مثل الشيخ بالضبط. أصرّ “عبسي” على موقفه.
  • نعم، مثل ما قال لك. وافقته.

اضطر الفتى للرضوخ لنا، أخذنا إلى “برّاكة” كان يتكرر على زيارتها بين الفينة والأخرى. قال لنا إنّ الشيخ يمارس الجنس معه في هذا المكان أحيانًا. عندما خلع ملابسه وأمرنا بأن نخلع مثله صُعقنا، ارتجفت فرائصي، قلت لـ “عبسي” اخلع أولًا، أصر هو أن أخلع قبله حتى اتفقنا على أن نخلع ملابسنا معًا، ضحك الفتى منّا قائلًا : “أنتم صغار.. الشيخ كبير”، ثم أردف قائلًا: “لن يمكنكما الاستمرار.. أنصحكما بأن تصنعا مثلي”، وارتدى ملابسه ومضى.

بعد هذه الحادثة مضت أيام لم نذهب إلى “الخلوة “لعلمنا بأن الشيخ قد رأى “عبسي” وتعرف إليه، لذا كنا نمضي الوقت ندور الحارات والشوارع نتفكر أحيانًا فيما قاله لنا الفتى، لقد فتحنا أعيننا على شيء جديد كان مستترًا عنّا.

لم نكن قد بلغنا العاشرة بعد؛ لكننا فهمنا ماذا عنى الفتى، ماذا حدث بينه وبين الشيخ، توصلنا إلى أن الأمر يقع ضمن قائمة “الحاجات العيبة”، اتفقنا أن نحاول أن نبتعد عنه، وأن لا يفكر أحدنا في أن يصنع مثله.

يظل الإنسان يعيش في النمط الملائكي مدة من الزمن لا يدري ما هو الخير وما هو الشر، يظل يسير مغمض العينين في هذه الدنيا، صفحة بيضاء لم توضع بها نقطة واحدة، مخلوق آخر لا يمتّ للإنسان بصِلة.. أو هو الإنسان الكامل، في لحظة من لحظات عمرك تصعق بالدنيا كما هي عليه، أدغَال تتداخل مع مدنٍ تتداخل مع مقابرٍ تصنع لوحة سيريالية عن معنى الحياة الدنيا كما تصف الأديان، تكتشف الحب والكراهية، الخير والشر، الأمل والألم، تتدافع المعلومات في دماغك سيلًا غريبًا، تكتشف المحظور، وبخبرة عاطفية فطرية تتعرف على القيم والمبادئ والأخلاق التي يجب أن تسير عليها موضوعة في بوتقة الدين، تكتشف جسدك، يدرك الأخ أن هناك اختلافًا غريبًا بين جسده وجسد أخته، يدرك بعدها أن ذاك الاختلاف هو الميزة التي مُيّز كلاهما عن بعضهما، يدرك بعدها أن الأعضاء المُختلفة فيما بينها ما وُجدت إلا لتكمّل بعضها البعض.. لذلك يفتح عينه عن معنى الجنس، العاطفة، الحب، إتمام نصف دينه كما نقول، التركيبة الروحية له تظل أكثر الأجزاء ظلمةً في طريقه للتعلم عن معنى هذه الحياة، عن معنى الإنسان، يستكشف أغلبنا كل ما هو حسّي وجسدي، ندرك أن التدخين يتلف الرئة لكن نظل نطلبه، ندرك أن الحرب تتلف الأرواح لكن نظل نطلبها، ندرك أن الحب يتلف القلب لكن نظل نطلبه.

عندما يصبح الإنسان إنسانًا، يتعرف على واجباته، أهوائه، يصنع له قائمة من الأصدقاء وقائمة للأعداء، قائمة للعابرين والمعارف وقائمة للمقربين، لا يصبح الإنسان إنسانًا عندما يتعلم المشي أو النطق أو الغذاء خارج نطاق صدر والدته، لا يصبح إنسانًا هكذا بمجرد أن يتعلم حركات الصلاة من سجود ومن ركوع بل عندما يعرف أنها صلاة صلة تواصل.

فتحنا أنا و “عبسي” أعيننا مبكرًا، كنت أظن أن الواجب الطفولي كان يقتضي علينا أن نتريث في أن نكبر قليلًا، أن نلهي أنفسنا في لعبة حلولة النَّبي أو في هزيمة بعض قوى الشر من مجرة أخرى أو ركل الكرة حتى اللانهاية، كان “عبسي” يظن أنه من الواجب أن نتعلم عن هذه الدنيا ونحن صغار حتى لا نتفاجأ بها عندما نكبر، كنت أقول له: “وألعابنا؟”.. كان يقول لي بأنها ليست إلا فضيحة صنعتها يد الخيال، ارتكبنا المعرفة، ارتكبنا التعجل، وارتكبنا الحياة.

تعلمنا ماذا يعني “الجنس”، لذا كان من الواجب أن نتعلم كيف نصف الأفعال التي تندرج تحته، مسميات الناس الذين يمارسونه بجميع أصنافهم، عرّفني “عبسي” ذات ضحى بولد يقال له “ودود” وعلى عكس اسمه لم يكن ودودًا البتّة.. قال “عبسي” بأن “ودود” هو أحد أبناء عمومته يعرف كيف يسب ويشتم وسيتولى هو تدريسنا على حدِّ تعبيره، قال لي أيضًا ليس من الواجب أن نقول ما يمليه علينا، فقط علينا أن نعرف ومن ثم نختار أن نستعمل علمنا أو لا، كان ودود يكبرنا بأربعة أعوام، لم تطل معرفتي به كثيرًا لأنني قررت أن أنسحب منه وأكتفي بعبسي معلمًا لي، كان سبب مشكلتي معه أنّه لم يكن لطيفًا لذا دخلنا في أكثر من عراك، ضاق صبري بتنمره، لذا ابتعدت عنه بثقافة لا بأس بها عن الحياة.

في الثالثة عشر ارتشفنا أولى النفثات من سيجارتنا الأولى، أتذكر اليوم كأني أعيشه هذه اللحظة. بعد العودة من المدرسة واتخاذنا للطريق الاعتيادي وغيابنا عن الأنظار أخرجت من حقيبتِي سيجارة كنت قد سرقتها من جيب أبي، وقفت، أخبرتُ عبسي بالذي سنصنعه، كان في البداية متوجسًا، ولكن كتوأمي روح كان علينا ما إن يُقدَم أحدنا على خطوة على الآخر أن يوافقه دون أن يسأله لمَ أو كيف. كنت خائفًا من التجربة في البداية، استجمعت قواي، دخلنا سانية من النخيل، تظللنا بإحداها، وظلّ عبسي يراقب الطريق وأرجاء السانية تحسُّبًا لأي ضيف غير مرغوب به بينما أشعلت السيجارة، كنتُ أرتعش حدّ العرق.

يهتز إصبعاي اللذان يحملانها، شفتاي وكأنهما ستبتلعان سمًّا، عندما وضعته بين شفتيَّ لم أدر ماذا أصنع به، حدجني عبسي بنظرة ملؤها التعجب، أمرنِي بأن أنفخ فيها، نفخت، لكن لم يحدث أي شيء، قال لي “انفخ أكثر”. أنظر له والدخان يصعد من رأس السيجارة، أنفخ بأقوى ما لدي دون جدوى، قال هامسًا بقوة: “إذًا تنفسها”، عندما حاولت ذلك أحسست كأن حريقًا قد جرى داخل جسدي، سرت النار من فمي إلى رئتي بسرعة خاطفة، سقطت السيجارة، احمرّت عيناي، وأطلت في السعال الحاد مدة لا بأس بها وأنا قابض على صدري كالطير المذبوح، كانت السيجارة ملقاة على الأرض تشتعل كالجمر، أسرع عبسي يتلقفني، عندما انتهيت من السعال نظرت إليه وملئي الدمع قلتُ له بصوتٍ مذبوحٍ:

  • العاهرة، حارة!
  • أنتَ ضعيف، هاتها. وتلقف السيجارة.

دبّت في أوصاله رعشة كالتي دبّت في أوصالي، ارتشف منها قليلًا، سرت النار في جسده، أحالت أنفاسه رمادًا، ودخل في دوامة من السعال، خرجت منّي ضحكة هستيرية أسخر فيها منه:

  • من الضعيف الآن؟
  • قوية جدًّا. قالها وهو يستمر في السعال.

ألقينا بالسيجارة، وعاد كل منّا لمنزله، في المنزل أصريت على أن أتعلم كيف يمكن لأبي أن يدخنها دونَ أن تسري النار في جسده، ظللت أراقب حركاته، كيفية تعامله معها، كيف يتنشقها.. ثم كيف يخرج الدخان من فمه في عملية تكرارية كانت كالعبث بالنسبة لي، كيف يحطم السيجارة تلو السيجارة في جسدِ المطفأة ثم يتلقف الأخرى؟ منذ ذلك الحين ولم أتوقف عنها إلا بعد حادثة الشيخ حمزة التي غيّرت من مسرى حياتي، ثم عدت إليها بعد فترة من الزمن ليست بالطويلة.

___________________

* محمد النعاس: كاتب من ليبيا يمكن الاطلاع عن المزيد من كتاباته عبر مدونته خارج التغطية