008

غادرتُ دفءَ وحشةِ شقتي، قرابة الظهر، في يوم أحد. وسرتُ، على قدمين واهنتين، متمهلاً، وحيداً، لا ألوي على شيء، باتجاه محطة قطارات ويمبلدون، حين لمحته، صدفةً، في الكسندرا روود، ملتحفاً صـمته، وقابعاً وحيداً، على إفريز نافذة شقة في الطابق الأول. وقفتُ، مشدوهاً، غير مصدق. أحسست بتسارع دقات قلبي، وشعرت بموجة من حنين ونور شفيف كالطفولة تلمس بنعومة شغافي. صرخت بصوت هامس: “مَحْبِس نُوارنا!”.

للحظة، اعتقدت أنّ أحداً ما ـ صديقاً من أصدقائي أراد المزاح معي ـ قد أزاحه من مكانه في شرفة شقتنا، في الظهرة، بطرابلس، وأحضره معه إلى ويمبلدون، بجنوب غرب لندن، ووضعه، عمداً، على إفريز تلك النافذة الصامتة، في مؤامرة قصد بها خلخلة ما تبقى، صامداً، من دفاعات حنيني.

كان وحيداً، مستريحاً، مدثّراً بهدوئه، تحت سماء مشمسة وباردة، في مبنى قديم، في شارع طويل وخالٍ من المارّة، بعيداً عن طراوة لمسة يديّ أمي، وإطلالة وجهها، وهي تنحني بجسدها الهرم عليه، بود، كل يوم، تسقي عروق نعناعه المحرورة بالماء.

شيء ما تيقظ في داخلي، كنبع ماء قديم، غطته رمال الوقت، وفجأة، اشرأب بعنقه من وسط الرمال، وفجّر في داخلي نوافير الذكريات.

ما زلتُ، رغم تقلبات السنين، أتذكّر، بحميمية، مَحْبِس نُوارنا، قابعاً في زاويته المعهودة في الشرفة، وحيداً، مستكيناً، صيفاً وشتاء، محاطاً بصمت شبيه بصمت القبور.

 فهل يا ترى ما زال يتذكرني؟

أم أنّه، متأثراً بتقادم الزمن وتلازم الغياب، صار، مثلي، هرماً، سارحاً، طوال الوقت، مقتفياً أثر ظلال طفولة لا ترجع؟

واصلت سيري في الشارع الطويل الموحش حتى وصلت نهايته المطلة على مفرق الطرق في شارع ويمبلدون هيل روود. يميناً، تقود الطريق إلى هضبة عالية تقود إلى ويمبلدون فيلج. يساراً، تمضي الطريق إلى وسط ويمبلدون حيث السنترال كورت ومحطة القطارات، ومحطات الحافلات، والحوانيت والمقاهي والبارات. أماماً، تؤدي الطريق إلى طريق يقود إلى ما لا أعرف. انعطفت يساراً، بعدما تأكد لي أنّ مزاجي النفسي، وقواي المنهكة لا يسمحان لي بالسير وصعود هضبة عالية. حين وصلت قرب محطة القطارات سمعت صوتاً أنثوياً يقول لي: “واش راك ياصُحْبَه؟” التفتُ فرأيت وجه صديقتي حسيبة، يبتسم لي بود. سلّمت عليها بحرارة، وسألتها عن أحوالها وأحوال أفراد أسرتها. كانت حسيبة تردُّ على أسئلتي بابتسامة ودودة تفيض من وجهها. سألتني عن مقصدي فأجبتها بأنّني تركت شقتي للتمشي وترويح النفس لا غير. قالت لماذا لا ترافقني إلى ساوث بانك؟ سألتها وما تفعلين هناك؟ قالت إنّها ذاهبة للقاء زملاء لها في مقهى تعودوا على الالتقاء فيه من حين لآخر. قالت أيضاً إنّني لن أندم لو رافقتها. جملتها الأخيرة جعلتني أقطع حبل ترددي. مشينا معاً إلى محطة القطارات.

صديقتي حسيبة، جزائرية، من العلمة، بسطيف، تعمل في إذاعة البي بي سي بالقسم العربي محررة أخبار وتعرفت بها منذ سنوات، في قاعة الكوفة، في شارع وست بورن غروف، بمنطقة كوينز وي، وصرنا أصدقاء خاصة بعد انتقالها للسكنى في ويمبلدون مع زوجها الإنكليزي. لذلك كثيراً ما نلتقي في محطة القطارات.

استقللنا القطار. وجلسنا على مقعدين متجاورين، وحكيت لها بالتفصيل الممل ما حدث لي مع محبس نوارنا. وحين انتهيت من قصتي سألتها:

– أهو الحنين؟

ضحكت حسيبة ثم سألتني:

– الحنين إلى فردوس مفقود أم إلى جنة موعودة؟

فاجأني سؤالها، قلت:

– ربما إلى كليهما.

رمتني حسيبة بنظرة أقل ما توصف به أنها “مُرّة”، ثم قالت بالإنكليزية:

– من لا يستطع تحمّل الحرارة لا يدخل مطبخ! هل سمعت هذا المثل الإنكليزي من قبل؟

أجبت بهزة من رأسي بالإيجاب، وسألتها:

– ماذا تقصدين؟

قالت:

– علّمني العيش الطويل في هذه البلاد ألّا أنظر ورائي. كل ما يهمني هو المستقبل. أنت حنينك إلى ماض أليم، وهذا يذكّرني بنوع من الناس الشاذين الذين يحبون تعريض أنفسهم للتعذيب. أنا حنيني إلى مستقبل أكثر إشراقاً!

سألتها مستنكراً:

– والوطن يا حسيبة؟ والأهل والأحبة والطفولة والصبا؟

تساءلتْ حسيبة بصوت جاد:

– والأهل والأحبة والطفولة والصبا يا حسيبة؟

– الله يكون في عونهم يا صُحْبَه.

 تذكّرتُ، في تلك اللحظة، مقطعاً من أغنية قديمة لفرقة جيل جلالة المغربية، يقول: “وعْدَادَ ما أنتَ ساير في الدنيا نيران في قلــوب أحبابك مضرومة”. رددت المقطع على مسمعها، وطلبتُ تفسيراً منها. ضحكت حسيبة وقالت إنّها لا تظن أنّ للمقطع علاقة بما نحكي، ثم غيرتْ الحديثَ بسؤالي عن آخر مشاريعي الكتابية. وجدت الفرصة مناسبة لأحكي لها عن مشروع الرواية التي أفكّر في كتابتها. ولمّا انتهيتُ من ذلك طلبتُ رأيها في الفكرة كامرأة وزوجة. ما زلت أذكر النظرة التي رمتني بها عيناها. سألتني إن كنتُ جَاداً فيما قلت. فأكّدت لها ذلك، فلم ترد. سألتها رأياً مرة أخرى، فقالت لي إنّها لا تريد الخوض في الموضوع لأنّ صراحتها سوف تسبب لي الكدر والحزن.

حين وصل القطار محطة لندن – واترلو نهضنا من مقعدينا وغادرنا القطار متوجهين إلى ساوث بانك سيراً على أقدامنا. لم نتبادل كلمة في الطريق حتى وصلنا إلى مقهى صغير يقع في ناحية قريبة من النهر. رؤية النهر في استرخائه المعهود، والرتيب، دائماً تنعش قلبي، فأحس بالحبور يتسلل فرحاً كطفل إلى حنايا روحي. اتجهتْ هي، وأنا أتبعها، نحو منضدة قريبة من الباب يجلس حولها رجلان وسيدتان. أطلقتْ هي السلام وسحبت كرسياً وجلستْ، ثم قدمتني إليهم باسمي. فصافحت الجميع، وسحبت كرسياً وجلست بين حسيبة وسيدة أخرى محجّبة، تبين لي فيما بعد أنّها عراقية من بغداد. السيدة الأخرى كانت من خرطوم السودان، والرجلان قاهريان، وكلهم يعملون في القسم العربي بالبي بي سي. وكلهم، مثلي، تجاوزوا مرحلة الشباب. سألتني السيدة العراقية، واسـمها دعد، عن عملي، وكم من السنوات قضيت في لندن. فأجبتها باقتضاب. قالت حسيبة لأصدقائها إنّني كاتب ليبي، وقصصي ومقالاتي تنشر بصحيفة عربية تصدر بلندن، وإنّني مثلها أقيم في ويمبلدون. ثم التفتت لي وطلبت مني الإذن في أن تقصّ على أصدقائها حكاية الرواية التي أفكّر في كتابتها. حين انتهت حسيبة من سرد الحكاية التفتت دعد، نحوي، ضاحكة، وقالت لي إنّ الفكرة غريبة، كالليبيين أنفسهم، لكنّها تتمنى أن تقرأ الرواية. قال أحد الرجلين القاهريين، واسمه يسري، إنّه يعتقد أنّ رواية مثل التي أفكّر في كتابتها ستكون مثيرة ومشوقة لأنّها، على الأقل، ستكون مفيدة بعض الشيء. وتحسّر ندماً لأنّني لم أكتب الرواية منذ عشرين سـنة مضت. لأنّني، حسب قوله، لو فعلت ذلك لكان عرف كيف يتخلّص من زوجته منذ وقت طويل. ضحك الجميع لكني شعرت بشيء من خجل. سألتني السيدة السودانية، واسمها ندى، عن السبب وراء كتابة رواية بفكرة غريبة ومثيرة للريبة، وتساءلتْ لماذا لا أكتب رواية عن تجربة السنوات التي قضيتها في الغربة؟ تدخل الرجل القاهري الآخر، واسمه فؤاد، في الحديث، قائلاً إنّ ندى تخاف أن يقرأ زوجها الرواية! ضحكتُ مع الآخرين. قلتُ باستحياء إنّني كقاص قد وصلت مرحلة من العمر دون إنجاز عمل روائي واحد. قلت أيضاً إنّ فكرة كتابة رواية عن سنوات تجربتي في لندن، وغيرها من المدن البريطانية، قد راودتني كثيراً إلّا أنّني وجدت أنّ الخوض فيها قد يأخذني باتجاه تكرار تجارب روائية عربية أخرى. تدخّلت حسيبة قائلة إنّه من الأفضل لي التركيز على خوض غمار تجربتي الروائية الأولى في شوارع وأزقة لندن التي عشت فيها سنوات طويلة وخبرتها، وإنّه من المهم لكاتب مثلي بصدد الشروع في دخول مغامرة كتابة روايته الأولى أن يكون على إلمام واسع بموضوع روايته. قالت، أيضاً، إنّ خوفي من التكرار لا داعي له لأنّ التجارب الإنسانية متنوعة وخصبة ولا يمكن لإنسان أن يعيش نفس تجربة إنسان آخر مهما تقاربت الظروف وتشابهت، وإنّها واثقة من قدرتي على كتابة رواية مختلفة عما سبقها من روايات. وافقها فؤاد على ذلك وأشار إلى الروايات التي يكتبها كتّاب من شبه القارة الهندية باللغة الإنكليزية، ونجاحهم المذهل في تقديم عوالمهم المدهشة إلى القارئ الغربي. وسألني لماذا لا أكتب روايتي باللغة الإنكليزية؟ أجبته أنّني فكّرت في الأمر، خاصة بعد النجاح الذي حققه كاتب ليبي شاب في السنتين الأخيرتين، إلّا أنّني عدلت عن الفكرة بعدما تأكد لي أنّ الكتابة باللغة الإنكليزية، بالنسبة لي، مثل فريق كرة قدم يلعب بعيداً عن أرضه وجمهوره. ضحك فؤاد وتساءل عن المانع في ذلك، خاصة إذا كان الفريق في قوة فريق كرة قدم مثل مانشستر يونايتد الذي يفوز في معظم مبارياته خارج أرضه، وبعيداً عن دعم جمهوره! هزّت ندى رأسها موافقة فؤاد، وأشارت إلى رواية ميلان كونديرا (جهل) التي كتبها باللغة الفرنسية. تدخلت حسيبة موضحة أنّ كونديرا كتب كل رواياته السابقة بلغته الأم رغم وجوده في فرنسا سنوات طويلة. قالت إنّها قرأت الرواية باللغة الفرنسية ووجدتها رائعة. ثم التفتت نحوي وقالت لي إنّني يجب أن أقرأ الرواية لأنّها تتعرض لنفس الموضوع الذي تحدثنا بشأنه في القطار. قلت لها إنّني قرأت الرواية في ترجمتها الإنكليزية وأعجبتني كثيراً. أما بخصوص ما تحدثنا بشأنه في القطار فإن كونديرا، في الرواية موضوع الحديث، كان يحكي عن تجربة العودة إلى الوطن بعد غيبة طويلة. تدخل يسري مطالباً الجميع بتركي وروايتي لحالي، وأنّه شخصياً يفضل أن أكتبها بالعربية حتى لا تستطيع زوجته الإنكليزية قراءتها وتجد، بعد هذه السنوات، طريقة للتخلص منه! (…)

في محطة قطارات لندن – واترلو وقفتُ، يداي في جيب بنطالي الجينز، إلى جانب حسيبة، محدّقين بعيوننا في الشاشات الإلكترونية التي تعرض مواقيت مغادرة القطارات إلى مختلف الجهات. كان آخر ضوء للنهار قد غادرنا على قطار سبقنا، والمحطة تغصّ بالبشر المتعجلين على اللحاق بقطاراتهم، أو بما لا أعرف. بالقرب منَّا، وقف شابٌ وفتاة، في عزلة كاملة عـما حولهما، مستغرقين في قبلة طويلة.