ارتبط التاريخ البريطاني الحديث بثقافة شرب الشاي، فليس من المبالغ ان نقول بأن حجم كبير من الثراء الذي حققته الامبراطورية البريطانية في تاريخها الذي استمر لما يزيد عن ثلاثمائة عام ارتبط بتجارة الشاي وشربه، حتى ان الشرارة الاولى للثورة الامريكية والتي ادت إلى تكوين الولايات المتحدة الامريكية ارتبط بحادثة ألقاء حمولة سفينة كاملة من الشاي في ميناء مدينة بوسطن.


إلا أنه مع التغيرات السياسية والاقتصادية التي طرأت على بريطانيا تراجع دور الشاي كمشروب وطني إلى مساحة من التاريخ الرومانسي، مع احتفاظ الانجليز بشكل خاص على عادات وتقاليد موعد الشاي وخاصة في الطبقة الوسطى العليا التي تحاول الحفاظ على التقاليد الانجليزية العريقة.

انتشرت في السنوات العشر الاخيرة سلسلة المقاهي التي تركز اهتمامها على بيع جميع انواع المشروبات الساخنة – والباردة – المتكونة من حبوب القهوة. وعلى رغم من ان تاريخ افتتاح اول محل لبيع القهوة في العاصمة لندن يعود إلى العام 1652 وتطور المقاهي عبر السنين إلا ان المشروب المنبه لم يدخل البيوت البريطانية إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، كما ان المقاهي المعدودة التي انتشرت في لندن كانت تقتصر على طبقة معينة من رجال الاعمال والنبلاء، حتى ان النساء في فترة معينة كانت تمنع من دخولها –  ولم تتحول المقاهي إلى اماكن عامة تشابه الحانة العامة والتي ترتبط بثقافة الطبقة دون الوسطى والطبقة العاملة في بريطانيا.

مع مطلع التسعينات من القرن العشرين بدأت سلسلة المقاهي العالمية في افتتاح عدة فروع لها في بريطانيا، قادمة بطبيعة الحال من الولايات المتحدة وبدرجة ثانية من دول اشتهرت بالمقاهي مثل ايطاليا وفرنسا واسبانيا.

حالياً هناك المئات، من المقاهي المتنوعة في لندن، إلا ان سوق بيع المشروب الداكن بجميع تنوعاته تسيطر عليه ثلاث شركات عالمية وهي ستاربكس، نيرو وكوستا، وعلى الرغم من ان سوق المقاهي في بريطانيا بشكل عام تصيبه مرحلة من التشبع منذ العام 2004، إلا أنها استطاعت في فترة قصيرة لا تتجاوز العشر سنوات من تكوين ثقافة محلية تتركز حول القهوة والمقهى وهي نفس الثقافة التي انطلقت قبل عشرات السنين في الشرق الاوسط (ايران، تركيا، الشام ومصر) وبعدها في اوروبا (ايطاليا وفرنسا)، ثم الامريكيتن مع توافد المهاجرين من العالم القديم.

اخيراً دخلت ثقافة المقهى إلى بريطانيا، بالجلوس وتمضية الوقت في شرب القهوة والشاي الآن مع بعض الحلويات، والساندويشات والوجبات الخفيفة والعصائر والمشروبات الغازية، واصبحت ترتبط بالثقافة من خلال بيع الصحف وبعض الكتب الملحقة في المقهى ومع دخول الانترنت لهذه المقاهي اصبح المقهى مكان مناسب للجلوس لساعات في شرب القهوة وانجاز الاعمال على الاجهزة  المحمولة، واصبح مكان لعقد الاجتماعات غير الرسمية وخاصة في وسط مدينة لندن المالي.

وعلى الرغم من انتشار المقاهي التجارية في شكل سلسلة من المحلات المتشابهة في كل مكان من لندن إلا أن المقاهي الصغيرة والمستقلة ما تزال تعمل في هذا الوسط من التنافس التجاري، واصبحت عدد من المقاهي تفتح إلى جانب محلات بيع الكتب والمكتبات العامة، وخاصة من توفر الانترنت في هذه المقاهي مجاناً والتعامل الحميم للعاملين في هذه المقاهي، كما هو الحال مع مقهاي المفضل، مقهى (لندن ريفيو اوف بوكس)، وهو مقهى صغير تم افتتاحه نهاية العام 2007 ليكون ملحقاً بمحل (لندن ريفيو اوف بوكس) لبيع الكتب والذي تديره مجلة أو صحيفة (لندن ريفيو أوف بوكس) والتي تعنى بعروض الكتب والنقد والمقالة المتعلقة بالكتب الصادرة في بريطانيا خصوصاً والعالم بشكل عام والتي احتفلت بثلاثين عاماً على صدروها العام 1979 وتعتبر من اهم المطبوعات النقدية والمهتمة بالترويج للكتاب في بريطانيا.


ويتميز مقهى (لندن ريفيو أوف بوكس)، والذي جئته أول مرة في فبراير العام 2008 مع صديقي الشاعر رامز النويصري ومذاك اصبحت زبوناً شبه يومي للمكان، يتميز بحجمه الصغير وحميمية العاملين فيه وبالاخص مديرته الاسترالية (تيري غلوفير) واعتنائها الشديد بجودة القهوة والشاي والحلويات والوجبات الخفيفة التي تقوم باعدادها بنفسها وبطريقة صحية، كما أن وجودها في وسط الكتب والصحف الثقافية والمجلات يجعل المكان فردوساً ثقافياً لديدان الكتب والمهتمين بعالم الكتاب من المؤلفين والناشرين ووكلاء النشر في بريطانيا وخاصة وأن المكان لا يبعد كثيراً عن المتحف البريطاني ودور النشر البريطانية الكبيرة، كما أن شهرة مطبوعة لندن ريفيو أوف بوكس ومحل الكتب الذي افتتح في العام 2003 واستقلاليته جعل العديد من الكتاب البريطانيين المعروفين زواراً دائمين على المحل والمقهى.

أزور المقهى عادة مرة أو مرتين في الاسبوع، إما بصحبة أحد الاصدقاء، أو للكتابة والترجمة، واستطيع القول بأنه مكاني المفضل للتأمل والكتابة والالهام، وخاصة وأن القهوة التي تقدم في المكان ذات جودة عالية تجعلك تعود دائماً، ولا ضير من الخروج من المقهى ومحل بيع الكتب بعد شراء كتاب أو اثنين، وقد أخبرني احد العاملين في المحل أن مبيعات كتبهم قد ارتفعت مع افتتاح المقهى، كما أنهم يقدمون تخفيضاً قدره خمسة جنيهات عن كل كتاب بعد ملء قسيمة اشتراك مع المقهى تؤهلك للحصول على التخفيض بعد طبع ثمانية أختام قيمة كل واحد اكثر من اربع جنيهات، وهو ما يشجع الكثيرين للعودة للاستمتاع بالقهوة والحلويات ووجبات الغداء الصحية، والدردشة الثقافية والكثير من الافكار المبعثرة في هذا المكان المتميز .
____
* الصور المصاحبة مصدرها موقع مكتبة لندن ريفيو أوف بوكس، وصفحة المقهى على تويتر.