IMG00144-20110512-1252_2

"على الديمقراطيات أن تجيد التسوية لكي تضمن بقاءها"

لقد حذر الكثير من الكتاب من طغيان الاغلبية. فرأي الاغلبية قد يكون خاطئاً. ورغبات الاغلبية قد تكون مؤذية. وقوة الاغلبية قد تكون خطرة. وإذا كان هناك شخص واحد اكثر اهمية من الجماهير، فإنه ذاك الذي لا يتفق معها. لذا يجب علينا حماية هذا الشخص، لأن بمقدوره طرح السؤال الذي لا يريد اي جمهور أن يستمع إليه، وهو هل نحن على صواب؟!

ولذا، فإنه إلى أن تتم حماية المعارضة، فإنه ليس من الممكن للتعقل أن يدير شؤون الحكومة. ولكن كيف تتم حماية المعارضة؟ ما الذي يجعل الناس تتفق او تختلف؟

كثيراً ما تجتمع افراد العائلة لمناقشة المواضيع ذات الاهتمام المشترك. وهو ما قد يؤدي إلى ظهور عدد من الآراء، والخطط المتضاربة، وحتى الفصائل المختلفة داخل العائلة الواحدة. ولكن جميع افراد العائلة المتوائمة سيقبلون بالتقيد بالقرار النهائي، حتى إن اختلفوا حوله. حيث إن لديهم مصلحة مشتركة للبقاء معاً. فهناك شيء ما اكثر اهمية من رأيهم الشخصي، وهو العائلة، والتي اجتمعوا معاً لمناقشة ازدهارها ومستقبلها.

وبعبارة اخرى، فإن العائلة جزء من هويتهم. وهي الشيء الذي لا يتغير، في الوقت الذي تتغير وتتصارع فيه ارائهم المتعددة. إن الهوية المشتركة تنزع الألم من الاختلاف. انها ما يجعل المعارضة، ومن ثم النقاش العقلاني، ممكناً. وهي الاساس لأي اسلوب حياة تكون فيه التسوية، بدلاً من الاستبداد، هي التقليد الطبيعي.

الشي ذاته يصح في السياسة. فالمعارضة، وحرية التعبير عن الاختلاف والاحتكام للتسوية جميعها تفترض مسبقاً هوية مشتركة. فيجب أن تكون هناك صيغة المتكلم الجمعية "نحن" إذا اراد العديد من الافراد البقاء معاً، وذلك بقبول آراء ورغبات بعضهم، بغض النظر عن الاختلاف.

إن الدين يوفر مثل هذه الصيغة المتكلمة الجمعية. فبامكاني تعريف نفسي كمسيحي او مسلم، وقد يكون ذلك كافياً ليلزمني مع رفاقي المؤمنين، وذلك حتى في حالة اختلفنا في القضايا اليومية للحكم. ولكن، وبحسب ما دللت  في الجزء السابق، فإن ذاك النوع من صيغة المتكلم الجمعية لا تتماشى مع السياسة الديمقراطية.

فهي على وجه الخصوص لا تقبل الاختلاف الاساسي داخل الدولة، بين المؤمنين الذي يقبلون مذهب الحاكم والزنادقة الذين لا يقبلونه. إلى جانب ذلك فإنه يتم تعريف النظم الحديثة للقانون من قبل الإقليم وليس من المذهب. فأنت في مصر، عليك اتباع قانون مصر وليس قانون تركيا او اليونان.

ومن هنا كانت الحاجة إلى "نحن" وطنية وليست دينية. فالدولة الوطنية هي نتاج للتجاور الانساني، والتي تتشكل من خلال التأثير غير الظاهر للاتفاقيات اللامعدودة  بين الافراد الذين يتحدثون اللغة نفسها ويعيشون جنباً إلى جنب. إنها نتاج التسويات الراسخة المتكونة بعد عدة صراعات، وتعبر عن الاتفاق المتشكل ببطء بين الجيران، لمنح بعضهم بعضا المساحة اللازمة للعيش وحماية تلك المساحة كأرض مشتركة. وبذا يكون قانونها اقليمياً وليس دينياً وهو ما لا يستدعي اي مصدر للسلطة اعلى من الممتلكات غير الملموسة التي يتشارك فيها اصحابها.

إن جميع هذه الملامح تعد نقاط قوة، فهي تغذي شكلاً متكيفا من الالتزام السابق للسياسة. وإلى أن يحدد الناس هويتهم  بالبلد، اراضيه وميراثه الثقافي – فيما يشبه الطريقة التي يحدد فيها الناس انفسهم في داخل العائلة – فإن سياسة التسوية لن تتحقق.

يجب على الناس ان يعاملوا جيرانهم بجدية، كمواطنين لديهم حقوق متساوية في الحماية، والذين قد يطلب منهم، في الازمات، أن يهبوا حياتهم لأجلهم. إنهم يقومون بذلك لأنهم يؤمنون أنهم ينتمون معاً لوطن مشترك. إن تاريخ البشرية شاهد على ذلك. فحيثما حدد الناس هويتهم بمحددات لا يشتركون فيها مع جيرانهم، فإن الدولة تتفتت عند اول ضربة حقيقية – كما حدث في يوغسلافيا السابقة، وفي سوريا ولبنان، وفي نيجيريا اليوم.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية أصبحت النخبة السياسية في الدول المهزومة تشكك في الدولة الوطنية. لذا ظهر الاتحاد الاوروبي من خلال الاعتقاد بأن الحروب الاوروبية حدثت كنتيجة للشعور القومي، وأن ما نحتاجه هو شكل جديد من الحكومة العابرة للقوميات لتوحيد الناس حول مصالحهم المشتركة في تعايش سلمي. غير أنه من المؤسف القول بأن الناس لا يحددون هويتهم بهذه الطريقة.

فليس هناك صيغة للمتكلم الجمعي يمكن للمؤسسات الاوروبية أن تكون التعبير السياسي عنه. فالاتحاد قائم على معاهدة، والمعاهدات تستمد سلطتها من الكيانات التي توقع عليها. تلك الكيانات هي الدول الوطنية لأوروبا، والتي يستمد منها الاوروبيين ولاءتهم. لذا فإن الاتحاد، والذي تشكل لكي يتجاوز مثل هذه الولاءات، يعاني من ازمة شرعية دائمة.

لقد ذكرت، في  الجزء السابق، بأن رغبة الاخوان المسلمين في حكم مصر بواسطة الشريعة الاسلامية يشكل خطراً على الدولة العلمانية. فسياسة التسوية غير ممكنة إلا في حالة كان القانون قابلاً للتغير ليعكس الحاجات المتغيرة للمجتمع. فالقوانين التي يفرضها الله لديها طابع الديمومة وغير متغيرة كصانعها. غير أن العيب ذاته يطبع القوانين المفروضة بواسطة معاهدة. فالمعاهدات سلطة ميتة ولا يجب فرضها على بلد ما إلا لاغراض محددة وملحة، ولا يمكنها أن تكون وسيلة للحكم في هذا البلد أو ذاك.

فعلى سبيل المثال، عندما تمت المصادقة على معاهدة روما في العام 1957 اشتملت على بند يسمح بحرية حركة رأس المال والايدي العاملة بين الدول الموقعة عليها. لقد كان الدخل الفردي والفرص، في ذلك الزمن، متساوية تقريباً في الدول المعدودة التي وقعت عليها.

إلا أن الاوضاع اختلفت كثيراً الآن. فقد توسع الاتحاد الاوروبي ليضم معظم الدول الشيوعية السابقة في اوروبا الشرقية، والتي اصبح لمواطنيها حق الاقامة في بريطانيا، والتنافس على فرص العمل في الوقت الذي يوجد فيه اكثر من مليونين من العاطلين عن العمل. لذا فإن العديد من المواطنين البريطانيين مستأون من ذلك.

غير أن القانون الذي يخول تلك الحقوق تم تضمينه تلك المعاهدة، ولأن المعاهدة لديها اسبقية على التشريع البرلماني، لذا لا يمكن القيام بأي شيء. وتبدو المسألة وكأننا اصبحنا نحكم بشكل ما من القانون الديني، حيث تكون مشيئة الله حاضرة في كل قانون، وبذا تصبح حتى اكثر التغييرات ضرورة ممنوعة.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو، لماذا ادت تجربة الحكم الفيدرالي، إلى ظهور امبراطورية اوروبية غير قابلة للمحاسبة، بينما ادى نفس الاسلوب إلى ظهور ديمقراطية ناجعة في الولايات المتحدة؟ الاجابة بسيطة – وهي أن الفيدرالية الامريكية لم تصنع امبراطورية ولكنها صنعت دولة وطنية. وهو ما تحقق بالرغم من الخلاف حول حقوق الولايات والحرب الاهلية الامريكية. لقد تحقق ذلك لأن الاستيطان الامريكي اقام حكما علمانياً للقانون، وصلاحيات قانونية اقليمية ولغة مشتركة في مكان ادعى الناس أنه وطنهم.

إذ وفقا للاستيطان الامريكي، فإن على الناس أن يعاملوا بعضهم بعضا كجيران، وليس كرفاق منتمين لعرق او دين او طبقة، ولكن كرفاق مستوطنين في ارض يتشاركون فيها. كما ان التزامهم للنظام السياسي نما من خلال واجب الجوار، وأن الخلافات بينهم تتم تسويتها من خلال قانون البلاد، والذي يعمل ضمن حدود اقليمية محددة من قبل المشاعر السابقة للناس، وليس من خلال نوع من البيروقراطية العابرة للقوميات.

باختصار، إن الديمقراطية تحتاج إلى حدود، والحدود تحتاج إلى دولة وطنية. فجميع الطرق التي يحدد بها الاشخاص هويتهم من حيث المكان الذي ينتمون إليه تؤدي دوراً في تقوية الحس الوطني. مثال ذلك، القانون العام للأنجلوساكسون،  فالقانون الذي يظهر من خلال حل الصراعات المحلية، بدلاً من أن يتم فرضها من قبل الحاكم، لعبت دوراً اساسياً في نمو الحس الانجليزي (والامريكي) بأن القانون هو ملكية مشتركة لجميع من يقطنون داخل نطاقه القانوني وليس من خلال اقراره بواسطه رجال الدين او البيروقراطيين او الملوك.

إن اللغة والمنهج المشتركين لديهما تأثير مشابه لحالة التآلف والقرابة والتقاليد اليومية مما يجعلها مصدراً للولاء المشترك. إن الشي الاساسي عن الاوطان أنها تنمو من الاسفل، وذلك من خلال العادات والتجمع الحر بين الجيران، والذي يؤدي إلى خلق ولاءات ترتبط بقوة بالمكان وتاريخه، بدلاً من الدين او السلالة او كما اوروبا، إلى طبقة سياسية محتكرة.

إن أهم ما في ديمقراطيتنا، ليس انتصار رأي الاغلبية، ولكن أن نكون مشاركين متساوين في العملية السياسية، وأن تصان حقوقنا من خلالها. إن القانون في الدولة الوطنية ملكية مشتركة لجميع المواطنين. فهو فوق كل شخص وكل زمرة. إنه يحمي المنشق من المتعصب، الاقلية من الاغلبية، والامة بكليتها من اولئك الذين يريدون أن يصادروا ممتلكاتها. إنها تقوم بذلك من خلال جمعنا كلنا معاً في صيغة المتكلم الجمعية. إن اوروبا لا تتجه نحو الديمقراطية بل تبتعد عنها، وذلك حينما نخسر الحق في تحديد هويتنا بهذه الطريقة. إن الديمقراطية تنتهي حين نجد انفسنا لا نحكم من قبلنا ولكن من قبلهم.

________

·       روجر سكروتون (1944): فيلسوف بريطاني.

·       نشرت هذه المقالة على موقع هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) وهي الجزء الثاني من اربع مقالات حول المسألة الديمقراطية من خلال الاحداث العالمية الراهنة وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا.

* للاطلاع على الجزء الأول روجر سكروتون: هل الديمقراطية مبالغ في اهميتها؟ (1/4)
* للاطلاع على الجزء الثاني روجر سكروتون: لماذا قد يكون من الجيد الاستسلام لخصومك (2/4)
* للاطلاع على الجزء الثالث روجر سكروتون: الديقراطية والشريعة الاسلامية (3/4).