2

"يحتفي الغرب بالديمقراطية كشيء جيد بشكل عام، غير اننا نبالغ في قدرتها على ضمان الحريات الشخصية والسياسية"

استندت الدول الغربية الرئيسة، ولبعض الوقت، على فرضية أن الديمقراطية هي الحل للصراع السياسي، وأن الهدف الاسمى لسياستها الخارجية يجب ان يكون تشجيع نمو الديمقراطية في البلدان التي لم تتمتع بفوائدها بعد. وما تزال هذه الدول ملتزمة بهذا الافتراض، حتى عند تتعامل مع الاحداث في الشرق الاوسط اليوم. وبامكاننا بسهولة ان نتفهم ذلك. حيث ان الديمقراطيات بشكل عام لا تحارب بعضها، كما انها، وفي العموم، لا تمر بحرب اهلية داخل حدودها. فحيثما يستطيع الشعب اختيار حكومته، فهناك صمام امان يمنع الخلاف من السخونة. فالحكومات غير الشعبية تسقط بلا عنف.

لذا فإن الاحتفاء بالديمقراطية اصبح ملمح مستقر للسياسة الخارجية الغربية. وبالعودة للوراء، فإنه عادة ما ينظر للحرب الباردة على انها كانت صراعاً بين الديمقراطية والشمولية، والذي انتصرت فيه الديمقراطية في النهاية. ومع الديمقراطية جاء تحرير شعوب الدول الشيوعية السابقة. فحيثما كان هناك استبداد وقمع، فإن هناك الآن حرية وحقوق انسان. ولو قمنا بدراسة كلمات الساسة الغربيين، فإننا سنجد الافكار الثلاثة – الديمقراطية، الحرية، وحقوق الانسان – تذكر في ذات الوقت، ويفترض أن تتوافق معاً في جميع الاحوال. ذلك هو الدرس الذي تعلمه، العديد من قادتنا السياسيين، من الحرب الباردة والانهيار النهائي للامبراطورية السوفيتية.

ومن وجهة نظري، فإن فكرة أن هناك حل واحد، بحجم واحد، يلائم الكل، للصراع الاجتماعي والسياسي حول العالم، وأن الديمقراطية هي المسمى لذلك، لا يأخذ في الاعتبار الظروف التاريخية والثقافية، ويفشل في النظر للديمقراطية باعتبارها غير ممكنة إلا بواسطة مؤسسات عميقة وغير ملموسة. وحيث أننا على استعداد لتقبل أن الديمقراطية تسير بشكل متوازي مع الحرية الفردية وحماية حقوق الانسان، إلا أننا نفشل في الاعتراف بأن هذه الاشياء الثلاث هي ثلاثة اشياء، وليست شيئاً واحداً، وأنها لا تتوافق الا تحت ظروف محددة فقط.

فلقد تم ادخال الديمقراطية في روسيا بدون اي ضمانات كافية لحقوق الانسان. كما ان العديد من حقوق الانسان تم تضمينها في بريطانيا بالقرن التاسع عشر وذلك قبل وقت طويل من من ظهور أي شيء يمكننا ان نسميه ديمقراطية. وفي الشرق الاوسط اليوم نجد أن هناك احزاباً تشارك في الانتخابات، مثل الاخوان المسلمين في مصر، تعتبر الانتصار الانتخابي كفرصة للقضاء على المعارضة وفرض اسلوب حياة لا يمكن للعديد من المواطنين قبوله بسهولة. وفي مثل هذه الظروف فإن الديمقراطية تعد تهديداً لحقوق الانسان وليست وسيلة لحمايتها.

لقد سنحت لي الفرصة لدراسة هذه القضايا خلال الثمانينات، عندما كنت ازور اصدقاء وزملاء كانوا يحاولون زراعة بذور المعارضة في البلدان الشيوعية. هؤلاء كانوا مواطنين ممتلئين بالحس العام، وعرضوا انفسهم للاعتقال والسجن بسبب انشطة، قد نعتبرها، أنا وأنت، بريئة كلية. لقد كانوا يقيمون فصولاً لشباب حرموا من التعليم بسبب خلفية ذويهم السياسية. لقد أسسوا شبكات لدعم الكتاب، الباحثين، الموسيقيين، والفنانين الذين منعوا من عرض اعمالهم. لقد قاموا بتهريب الادوية، الاناجيل، الرموز الدينية والكتب المرجعية. ولأن الجميعات الخيرية كانت ممنوعة تحت الحكم الشيوعي والمؤسسات الدينية تحت سيطرة الحزب الشيوعي، فإن كل هذه الانشطة كانت تدار سراً.

لقد تعلمت أن النظام الشمولي لا يستمر فقط من خلال التخلص من الانتخابات الديمقراطية وفرض دولة الحزب الواحد. ولكنه يستمر من خلال القضاء على الفارق بين المجتمع المدني والدولة، ومن خلال منع حدوث اي شيء مهم بدون سيطرة الحزب. فمن خلال دراسة اوروبا الشرقية، توصلت سريعاً إلى اعتبار أن الحرية السياسية تعتمد على شبكة دقيقة من المؤسسات، والتي كان اصدقائي يناضلون لاستيعابها، ولو امكن، انعاشها.

اذن ما هي هذه المؤسسات؟ أولاها هي: الاستقلال القضائي. ففي جميع القضايا التي كانت تهم الحزب الشيوعي، كان القاضي يتبع التعليمات للنطق بالحكم الذي يطلبه الحزب. ولم يكن مهما إن خرقت الضحية اي قانون. ولو تطلب الامر، فإن قانوناً ما يمكن اختراعه في اللحظة الاخيرة. ولو اراد الحزب سجن احدهم، حينها يجب على القاضي وضع الشخص في السجن. ولو رفض القاضي ذلك، فإنه نفسه، لو كان محظوظاً، سينتهي في السجن. في تلك الظروف فإن حكم القانون كان خيالياً بالكامل: فالقانون كان ببساطة مجرد قناع يضعه الحزب، بينما يقوم بفرض قراراته على الشعب.

ثم هناك مؤسسة حقوق الملكية. لم يكن للاشخاص العاديين في الدولة الشيوعية اي شيء يملكونه باسمهم – لا شيء قانوني على الاقل. فمنازلهم وشققهم مملوكة للدولة، ولا يمكنهم عرض ممتلكاتهم الشخصية القليلة في السوق، كما ان مرتباتهم ومعاشاتهم التقاعدية اعتمدت على مدى امتثالهم السياسي والتي من الممكن ايقافها في اي وقت. في هذه الظروف فإن الاقتصاد كان يدار بالكامل تحت الارض. فلا يمكن لمحكمة قانونية الزام العقود التي يحتاجها الاشخاص لكي يوفروا معاشهم. فقد يكون لديك اتفاق مع جارك لتبادل بعض الخضراوات بدورس  في الرياضيات. ولكن في حالة مخالفة الاتفاق وقدم احدكما الخلاف للقضاء، فإن النتيجة الوحيدة هي أن كليكما سيذهب للسجن لقيامكما بإدارة عملاً غير قانوني. لذا فإن جميع التعاملات كان تعتمد على الثقة الشخصية، في وضع كانت فيه الثقة غير متوفرة. لذا فإن المجتمع كان يعاني من الخلاف والريبة، والتي لا القانون ولا السياسة يمكنها معالجتها. وفي هذه الظروف ازدهى الحزب الشيوعي، حيث انه  منع الشعب من التوحد ضده.

ثم هناك حرية الرأي والتعبير. لقد اعتبرت حرية الممارسة والتعبير عن الرأي، مهما كان مهيناً للاخرين، منذ الفيلسوف جون لوك في القرن السابع عشر، شرطاً سابقاً للمجتمع السياسي. هذه الحرية تم تضمينها دستور الولايات المتحدة، وتم الدفاع عنها في مواجهة الاخلاقيين في العهد الفكتوري بواسطة الفيلسوف جون ستيورت ميل، وتم الحفاظ عليها في زمننا هذا بواسطة اصدقائي المعارضين في اوروبا الشرقية. نحن نتعامل في الغرب مع هذه الحرية كأمر مفروغ منه بشكل كبير، حتى اننا نعتبرها الحالة الطبيعية للبشرية – الحالة التي نعود إليها، لو تم ازالة كافة القوى القامعة المفروضة علينا. إلا أن تجربتي مع اوروبا الشيوعية اقنعتني بالعكس. فالتقاليد الجامدة، والتبعية وملاحقة المعارضين هي المحددات للحالة الانسانية، وليس هناك اي سبب للاعتقاد بأن الديمقراطيات تختلف في هذا المجال عن الثيوقراطيات الاسلامية او دول الحزب الواحد الشمولية.

وبطبيعة الحال، فإن الاراء التي تقمع وطرق القمع كذلك، تتغير من مجتمع إلى اخر. ولكن يجب علينا ان نوضح أن ضمان حرية الرأي يخالف اساس الحياة الاجتماعية، ويضع امامنا العديد من المخاطر قد يخشى الناس القيام بها. فعندما تنتقد التقاليد الجامدة، فإنك لا تشكك في ايمان ما وحسب، بل انك تهدد النظام الاجتماعي الذي بني عليه. كما ان التقاليد الجامدة التي يتم حمايتها بأكثر شدة هي تلك الاكثر ضعفاً.

وتتأكد هذه المسألة بشكل واضح من ردة فعل الاسلاميين للانتقاد الموجه لدينهم. فكما كان الحال خلال حروب الدين التي عاثت باوروبا في القرن السابع عشر، فإن ما هو اكثر سخافة هو الاكثر حماية. كما يتعامل مع المنتقدين كاشخاص بمشاكل فكرية وحسب. فهم يشكلون تهديداً، انهم اعداء المجتمع، وبالنسبة للمؤمن، هم اعداء الله. وكما كان الحال في عهد الشيوعية، حيث بني نظام حكومي على نظريات قد تكون مناسبة في المرحلة الاولى من الثورة الصناعية إلا أنها بدت سخيفة بوضوح في اقتصاد اوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى. ولهذا السبب تحديداً كان انتقادها يعد هرطقة كبيرة.

واخيراً، هناك المعارضة الشرعية. ولعل هذه المؤسسة كانت اكبر ضحية للشيوعية التي اعترت اوروبا. فعندما فرض لينين النظام الشيوعي على روسيا، جعله على شكل ديكتاتورية هرمية (من اعلى إلى اسفل)، حيث تمر الاوامر من الاعلى للاعضاء بالاسفل. لقد كانت ضرباً من الحكومة العسكرية، ولم تستطع المعارضة ان تتحد ضدها كما لا يستطيع الجنود في الجيش الاتحاد ضد قادتهم. ولعل هذا النوع من الانضباط كان ضرورياً في حالات الطورايء. ولكنه يخالف الحكومة المدنية المتحضرة.

لقد عرف عن بريطانيا، منذ زمن الانجلوساكسون، أن القرارات تتخذ بالاستشارة، بعد الاستماع لكافة اوجه المسألة، والاخذ في الاعتبار المصالح المتعددة والتي يجب ان تتوافق. فقبل تطور الديمقراطية، انقسم البرلمان البريطاني إلى حكومة ومعارضة، وباستثناء المراحل الحرجة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر فقد تم التوافق على أن حكومة بلا معارضة تفقد وسيلة تصحيحها عندما تسير الاوضاع في الاتجاه الخطأ. وذلك ما عايشناه في الاتحاد السوفيتي وامبراطوريته – نظام حكومي بلا وسيلة للتراجع، والتي استمرت في الاتجاه مباشرة نحو الحائط المستقبلي.

لقد تعلم اصدقائي وزملائي في الكليات السرية في اوروبا الشيوعية، هذه الاشياء، وجهزوا انفسهم لليوم المأمول عندما يلفظ الحزب الشيوعي الروح، وذلك بعد ان استهلك كافة المعطيات المنطقية. تلك الدروس التي تعلموها تحتاج إلى ان تتعلم مجدداً اليوم، بينما يقودنا ساستنا إلى الامام تحت رايات الديمقراطية دون ان يتوقفوا لدراسة المسائل التي تتطلبها الديمقراطية فعلياً.

________

·       روجر سكروتون (1944): فيلسوف بريطاني.

·       نشرت هذه المقالة على موقع هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) وهي الجزء الاول من اربع مقالات حول المسألة الديمقراطية من خلال الاحداث العالمية الراهنة وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا.