يعد مفهوم ” الدولة الوطنية” أو “الدولة القومية” حديثاً بالمقارنة مع تاريخ تكون الدولة كمفهوم سياسي غير محدد بعرق أو مجموعة بشرية متجانسة تتعايش على مساحة من الارض. وإن كان مفهوم الوطنية الحديث شهد تغيرات كبيرة في الثقافة الغربية والاوروبية بشكل محدد، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن الوطنية والقومية شهدت تنامياً متصاعداً في المنطقة العربية، وخاصة مع ارتباطها بحركات التحرر ومقاومة المستعمر والمحتل.

وبعد تراجع الفكر القومي العروبي في نهاية الستينات من القرن الماضي، والذي حل محله تنامي الفكر القومي الديني، فإن حالة التيه الفكرية في المنطقة العربية افرزت تخبطاً ثقافياً لاعادة انتاج مفهوم القومية في شكل جديد هو الوطنية القطرية، والتي تكونت من خلال حدود الدولة الحديثة، فيما يشابه نسبياً مفهوم الوطنية التحررية في مطلع القرن الماضي، والذي يعد انعكاساً لخيبة امل مجتمعات هذه الدول لسياسات انظمة قامعة استعملت المفهوم القومي ووحدة المصير (العرقي والثقافي والديني) في مشروعها لترسيخ قبضتها السياسية الحاكمة في بلدانها.

وعلى الرغم من صعوبة اتخاذ الاحداث التاريخية كوسيلة للمقارنة لإختلاف المحددات، إلا أن استقاء العبر من التجربة القومية والوطنية في البلدان الاوروبية وفيما بعد القومية العروبية في العالم العربي، انتج انظمة وسياسات كان من ضمن اوصافها، القمع والاقصاء والتهميش العرقي والفاشية التطهيرية. ولعل ما نشهده في العالم العربي في زمن سبق الثورات العربية بقليل وما نعيشه من احداث تاريخية لن نرى نتائجها إلا بعد حين من الزمن، يؤكد أن فشل الانظمة العربية القامعة جعل الفرد العربي يعود إلى مرحلة الانتماءات البدائية، والتي تختزل في البعد الثقافي الاجتماعي، والتي من أهمها الدين والوطنية المحلية القبلية العصبية.

ولعل احد اكثر المصطلحات تعرضاً للتشويه الاستبدادي هو مفهوم “الوطنية” و”الوطني” والذي استعمل من كحالة توصيفية للانظمة الشمولية، واصبح استخدام المصطلح وسيلة لاحتواء كافة الاصوات في الدولة الواحدة تحت مظلة سياسية، حزبية أو جماعية، لمنع تسرب أصوات معارضة للنظام الحاكم. وقد لا أبالغ في القول ان مفهوم الوطنية المترسخ في الخيال الجمعي للنخبة العربية، مازال مرتبطاً بالفكر القومي العربي، والصراع ضد قوى الاستعمار والهيمنة والتي وجدت لها ارضاً خصبة في بيئة فقيرة سياسياً بعد الحرب العالمية الثانية ومرحلة الحرب الباردة.
*


شهد مفهوم الوطنية السياسي في المنطقة العربية تحولاً اصولياً في العقد الأخير، ليشمل معاني الولاء والاخلاص والانتماء “للوطن”. “الوطن” الذي تراجع ليشمل المفهوم العرقي “العربي” والذي لم يعترف بالفوارق العرقية الأخرى، إلى مفهوم “الوطن” المختزل في الدولة الوطنية، التي تم نخريطها ككيان سياسي، مصطنع في الغالب، في النصف الثاني من القرن الماضي.


الوطنية بمفهومها السياسي الحديث في المنطقة العربية اصبح يستغل من اجل اضفاء الشرعية للجماعات والتيارات السياسية المتعددة والمختلفة، بل إن بعضها اصبح وفي مشهد ساخر يتفنن في استعمال مشتقات الوطن من “وطنية” و”وطني” لكي ينفي عن نفسه ومجموعته الاتهامات بعدم الانتماء للوطن، أو الشعب، أو النقاء الوطني غير المرتبط بشبهات الانتماء لوطن أو بلد اخر من خلال التجنس أو المواطنة القانونية.

مؤخراً افرز الحس “الوطني” شكلاً متكرر من اشكال الاقصاء من خلال لجان سياسية لتقديم صكوك “النزاهة والوطنية” كما هو الحال في ليبيا بعد الثورة، أو من خلال وضع الوطنية في قالب محدد يضع تعريفه تيار فكري أو سياسي يضفي على نفسه صفة الوطنية ويتمترس وراء شرعية امتلاكه للقوة الشعبية في الشارع والمجتمع، وينفي صفة الوطنية، وبالتالي الانتماء لكيان جغرافي/سياسي اطلق عليه “وطن” في غفلة من ازمة هوية مازال غالبية المجتمع يعاني منها.

في المقابل يعاني مفهوم “المواطنة” من قلة الاستعمال وسوء الفهم والخلط المتعمد احياناً مع مفهوم “الوطنية”. وتعني المواطنة في المفهوم الحديث العلاقة القانونية بين الفرد والدولة التي يقطنها ويعيش فيها، حيث تحدد العلاقة بينهما من خلال عقد اجتماعي ومساهمة الفرد في حركة المجتمع او الدولة والتي تفترض حقوقاً اساسية تنظم هذه العلاقة، وكثيراً ما يتم استعمال مفهوم “الجنسية” كمرادف للمواطنة، وإن كانت تعبر عن الحالة القانونية للفرد في الدولة اكثر من توصيفها لعلاقة الفرد بالمجتمع والمواطنين في البلد.

ولا تفترض المواطنة في شكلها العام أي معاني للوطنية العرقية أو الدولة القومية المحددة بانتماء، أو علاقة مباشرة لأصل عرقي أو قبلي أو عائلي مشترك، تفرض فيه قوالب اخرى قد تكون من بينها محددات اللغة أو الدين أو التاريخ الاجتماعي المشترك، فالمواطنة هي اعتراف بشرعية انتماء الفرد للمجموعة المكونة للبلد أو الكيان السياسي/الجغرافي والذي اعترف به باسم (الدولة)، وهي بذلك لا تضع شروطاً اخرى لا يحددها قانون يتفق عليه من قبل هذه الدولة لكي يصبح الفرد مواطناً منتمياً لها، ويتمتع فيها بحقوق متساوية امام القانون مع باقي الافراد المواطنين الذين قد يكون لكل منهم أو لمجموعة منهم محددات اخرى للتعريف بهويتهم الجمعية في داخل مجتمع المواطنة الذي يحدده قانون الدولة.

ولا تعني المواطنة تغليب أو محو هوية معينة داخل الدولة على باقي الهويات المتعددة في داخلها، ولكنها تسعى إلى تكوين هوية جديدة تكون من ضمن الهويات المكونة للفرد المواطن لتصبح الرابط بين افراد المجتمع بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية أو الدينية أو اللغوية أو الوطنية، وبهذا تكفل دولة المواطنة، للفرد امكانية الاستثمار المادي والمعنوي في هذا المجتمع عندما يصبح الاعتراف بشرعية وجوده فيه عاملاً لاتاحة الاستقرار والبناء والمساهمة في تطوير الفرد والجماعة.

يصبح مفهوم المواطنة في الدول المتعددة الثقافات والقوميات، أو الجماعات القبلية، امراً اساسياً ومهماً لتحديد العلاقة بين الفرد والدولة التي تحتضنه، كما تنظم العلاقة بين الافراد في المجتمع الذي قد يحتاج إلى زمن من التعامل مع المواطنة لكي ينبذ اشكال التمييز والقمع الاجتماعي التي تمارسها ثقافة أو هوية غالبة على باقي الثقافات بحجة النقاء العرقي أو الوطني، وقد يصبح الاحساس الوطني الذي لا تحكمه القوانين والتشريعات مصدراً للتفتت والتناحر الذي يؤدي إلى المزيد من التصدع في المجتمع.

قد تقضي المواطنة يوماً ما على سؤال الهوية المتأزم الذي نعانيه، والذي لا يكتفي بالتعامل مع الفرد المجرد من باقي محددات هويته، ولكنه يسعى إلى تحجيم وتقييم هذا الفرد من خلال انتمائه إلى هذه القبيلة أو تلك المنطقة أو ذلك الدين أو اللغة أو القومية، والذي على اساسه سيتم اما قبول الفرد أو نبذه في داخل الوطن المحاصر بشعارات الوطنية، والتي قد تؤدي إلى تكوين مواطنين في درجات ادنى من غيرهم، ويذكي احاسيس التهميش والاقصاء في داخل المجتمع.


فهل نحتفي قريباً بدولة المواطنة أم ستفتت دولة الوطنية ما تبقى من كياننا الاجتماعي؟!