قبل بضعة ايام قامت اللجنة العليا لاعداد مسودة قانون الانتخابات للمؤتمر الوطني الليبي والتابعة للمجلس الوطني الانتقالي المؤقت، بنشر مسودة قانون الانتخابات الذي على اساسه ستدار العملية الانتخابية التي ستأتي بأول هيئة تشريعية ليبية منتخبة وشرعية من قبل الشعب منذ اكثر من 42 عاماً في ليبيا.

القراءة الأولى للقانون، والتي شكك الكثيرين في امكانية صدورها في موعدها، كانت مزيج بين الترحيب وعدم الرضا عن بعض النقاط الواردة في المسودة والتي نوقشت من قبل العديد من المهتمين بالشأن الليبي وخاصة القانونيين والحقوقيين، ولعل اهم الانتقادات الموضوعية التي وجهت للمسودة تمحورت حول، عدم احكام لغة المسودة من الناحية القانونية مما يجعلها عرضة للتفسير والتأويل السيء، وكذلك انتقاد تحديد نسبة مشاركة المرأة في الهيئة التشريعية المنتخبة عند 10% دون الاشارة إلى ان كانت هذه النسبة هي الحد الاعلى او الادنى – ولو ان معظم القوانين الخاصة بنسب مشاركة المرأة في الانتخابات تفترض ان هذه النسبة هي الحد الادنى دون وجود سقف لها – هذا من جهة ومن جهة اخرى انتقدت قلة هذه النسبة وعدم ملائمتها لطموحات ناشطي الحقوق المدنية وللدور الفاعل والحيوي للمرأة الليبية في الثورة.

نقاط اخرى تم انتقادها ومناقشتها بشكل علني وايجابي حول اشتراط ان يتخلي اي مرشح عن جنسيته غير الليبية في حال كانت لديه اكثر من جنسية واحدة، وهو ما اثار حفيظة الكثير من الكفاءات السياسية والعلمية التي ساهمت في الثورة الليبية أو في السنوات الماضية في المعارضة ضد النظام الراحل، كما أن الشروط التي وضعت في القانون لضمان عدم ترشح أي من رموز أو ناشطي المنظومة السياسية السابقة، كان فيها الكثير من التفصيل ووصفها البعض بممارسة التنطع والتطرف الاقصائي، وذلك تلبية لمطالب غالبية الرأي العام الليبي والذي عبر عن خشيته من خلال المظاهرات والاعتصامات من عودة شخصيات سياسية محسوبة أو استفادت من النظام الراحل فيما اصطلح على تسميتهم بالمتسلقين. كما دار نقاش قانوني حول عدم وضوح مسألة توزيع الدوائر الانتخابية وتقسيم البلاد بحسب التوزيع السكاني والمساحة الجغرافية، وعدم الاشارة إلى نسبة التمثيل النيابي لعدد السكان في القانون.

كل هذه النقاط نوقشت من قبل القانونيين المختصين والحقوقيين وناشطي المجتمع المدني في ليبيا، وهي انتقادات مشروعة وموضوعية وتهدف في المجمل بالخروج بقانون انتخابي مؤقت متوزان بقدر الامكان وبحسب الظروف التي تمر بها البلاد. لكن الشخصيات والاحزاب والجماعات السياسية التي بدأت تتكون في الفترة الماضية والتي طالبت قبل بضعة اسابيع بضرورة التخلص أو اصلاح المجلس الوطني الانتقالي المؤقت لعدم شرعيته وسوء ادائه، وحذرت حينها من أن البلاد في حالة احتقان واستخدمت الكلمات التشاؤمية والترهيبية الرنانة والتي نظراً لخلفيتهم السياسية يجيدونها بشكل رفيع، كما انها ولوقت غير بعيد شككت في امكانية اعداد نص قانون الانتخاب بحسب الجدول الزمني الذي حددته المادة 30 من الاعلان الدستوري المؤقت، حتى أن البعض طالب بأن يتم حل المجلس فوراً لفشله واجراء انتخابات فوراً لمنح المجلس الشرعية الشعبية والقانونية التي يفتقدها.

هؤلاء خرجوا علينا خلال اليومين الماضيين بشكل فج وهم يدقون طبول الرعب والارهاب وينذرون بكارثة تحيق بليبيا إن تم اقرار هذا القانون كما هو، متناسين أن القانون لم يتم اعتماده وان الهدف حالياً هو تلقي الملاحظات والمشورة من المختصين ومنظمات المجتمع المدني وجماعات الضغط السياسي، وعلى الرغم من ذكرهم لنقاط الانتقاد التي ذكرتها آنفاً لكن جل نقدهم المر تركز في مسألة واحدة وهي أن القانون اعتمد وسيلة النظام الفردي وليس بنظام القائمة الانتخابية، ولم يعدموا فعلاً أو اسماً أو صفة لانذارنا ان هذا النظام غير ديقراطي ويخالف الاعلان الدستوري المؤقت، والذين شككوا قبل فترة قليلة في شرعيته، مذكرين أن المجتمع الليبي مجتمع قبلي جهوي مناطقي وان هذا الاسلوب سيكرس للجهوية والقبلية، بل وفي وجود السلاح في البلاد راحوا يحذرون من التطاحن المسلح.

هذه الحجج التي قد تبدو في ظاهرها مطالبة بمزيد من الديمقراطية من خلال تبني نظام القائمة الانتخابية المعتمد على التعددية الحزبية السياسية، ليست سوى اثبات أن القبلية السياسية التي يحاول البعض تكريسها من خلال تنظيماتهم الفكرية والسياسية لن تستطيع الصمود امام النظام الفردي والتي تعطي قوة لتمثيل الدوائر الانتخابية بممثل عن المنطقة يكون مسؤولا ومسائلاً امام ناخبي الدائرة في الهيئة التشريعية، وهو نفس حال المجلس الوطني الانتقالي المؤقت، والمجالس المحلية غير أن الاخيرة فاقدة للشرعية الدستورية الشعبية الانتخابية. فالنظام الفردي والذي يمنح تفضيلاً للمرشحين الافراد بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية أو الفكرية، يتطلب من الاحزاب السياسية الناشئة في ليبيا أن تكون لها قاعدة شعبية عريضة في مختلف الدوائر الانتخابية وهو امر غير ممكن حتى مع اكثر الجماعات السياسية تنظيماً وقدرة في ليبيا، لذا فهذا الاسلوب يكشف مدى ضعف الاحزاب السياسية وعدم تجذر ثقافتها في بلاد كان نظامها السائد وحتى بضعة اشهر يجرم الحزبية ويعاقب عليها. في حين أن نظام القائمة الانتخابية يعطي الافضلية لاكثر الجماعات والاحزاب تنظيماً بغض النظر في معظم الاحيان على قدرتها لتمثيل كافة الدوائر الانتخابية، لذا فإنهم يحذرون من طغيان القبلية الاجتماعية على قبليتهم السياسية والتي كانت ومازالت تقدم الولاء للهوية الفكرية السياسية على الولاء للهوية الوطنية الثقافية.

انتقادات البعض لتبني النظام الفردي جعلت منهم يلجأون إلى ممارسة المغالطات المنطقية، بل إن منهم من ناقض نفسه، وطالب المجلس بالتريث وعدم الاستعجال، ومنح فترة زمنية اطول للفترة الانتقالية المؤقتة وغير الشرعية حتى يمكن ترسيخ الممارسة الحزبية في البلاد وتعريف الشعب عليها حتى يمكن اعتماد نظام القائمة الانتخابية الذي يعتمد الحزبية السياسية، الأمر الذي لا يعبر عن رغبة الرأي العام الليبي في تحقيق الاستقرار السياسي من خلال انتخابات تشريعية نزيهة وعادلة.

يبقى من المهم التركيز على أن هذه الانتخابات المقبلة والتي يتطلع لها الملايين من الليبيين كونها انتصاراً لدماء الآلاف من ارواحنا التي سالت خلال الثورة، تهدف اساساً إلى منح شرعية لهيئة منتخبة ممثلة للشعب بقبائله الاجتماعية والسياسية والثقافية، الشرعية التي لا يملكها المجلس الوطني الانتقالي المؤقت ولكننا قبلنا به لاستيعاب المرحلة التي كانت تمر بها البلاد خلال الاشهر الماضية، بمعنى أن قانون الانتخابات المؤقت وبغض النظر عن كافة الملاحظات والانتقادات والاتهامات والردح السياسي هو تمهيد لاطلاق الحياة والعملية السياسية في بلاد على مدى اربعة عقود لم تعرف منها شيئاً.

ولقارعي طبول الرعب وانبياء الكوارث السياسية امنياتي بأن ينزلوا للشارع ويقتربوا من الشعب وأن لا يعينوا انفسهم اوصياء على الكادحين الذين لا تهمهم النقاشات النخبوية والسياسية المتعالية عن مطالبهم بحياة عادلة في وطن رؤوف رحيم.