بين حين وأخر تواجهنا جدليات لا تبحث عن اليقين بقدر ما تبحث عن وسيلة لطرح الاسئلة الصائبة ومن ثم تكوين وجهة نظر تدعي الاستقلالية. ومن بين هذه الجدليات (حدود حرية التعبير) وخاصة في العمل الثقافي بشكل عام والعمل الادبي بشكل خاص.


كثيراً ما يتم اختزال العديد من الاعمال الادبية في اطر اخلاقية مسبقة في محاولة لتحجيمها، ولعل اسهل الاحكام المسبقة التي تختزل العمل الادبي هو اتهامها “بالبذاءة”، واتحدث هنا بشكل خاص حول النصوص الادبية سواء الشعرية أو السردية أو المسرحية دون الخوض في مسألة ترجمتها بواسطة قنوات العرض الاخرى والتي تتمتع بشعبية عالية وتوفر عناصر المشاركة فيها.


وحيث ان المطالعة بشكل عام هي حالة فردية خصوصية تتميز بقبول المتلقي أو رفضه لقراءة هذا النص المكتوب، ولا يملك الكاتب او الناشر سلطة فرض القبول بقراءة النص المعروض، كما أن الحالة تتفاقم في ثقافتنا العربية وفي حالتنا الليبية المميزة بقلة عدد القراء ومحدودية انتشار قنوات النشر حتى مع توفر وسيلة يصعب تقييدها أو ممارسة الرقابة عليها كالانترنت.


كثيراً ما اجدني أقف متسائلاً أمام احتجاجات صارخة ودعوات متشنجة بالحجب والمنع والحذف تطال نصاً لكاتب ما او موقعاً او مطبوعة أو دار نشر لسماحها بانتهاك حرماتنا المستباحة بحجة أن هذا النص احتوى بذاءة تخدش الحياء العام، أو أن الكاتب استغل الدعوات الغربية الليبرالية الفاسدة ليخرج علينا بكم من العبارات البذيئة المصفوفة بجانب بعضها في محاولة لافساد اخلاق مجتمعنا أو في بعض الاحيان فضح اوهامنا الاجتماعية والدينية والسياسية.


وعلى الرغم من انتشار ما يعرف “بالبذاءة” في حياتنا اليومية، في احاديث المجتمع، وفي التعاملات العامة وبل حتى في موروثنا الشعبي من أمثال واشعار ونوادر، فقلما تخلو جلسة ما من سرد للحكايات والنكات “البذيئة” والتي تعبر عن حالة اعمق من مجرد الكلمات التي استعلمت لسردها، فإنك تقف مندهشاً أمام ذلك الخوف العصابي من نص صغير لا تتجاوز كلماته الألف ولا يملك صاحبه وسيلة لنشره سوى صحيفة محلية، في حال موافقتها على النشر، أو موقع الكتروني، بينما تخفت الاصوات وتطاطئ الجموع رؤوسها أمام ثقافة تمتلك آلاف مكبرات الصوت وتضرب موعداً اسبوعياً ثابتاً يحضره مئات الآلاف بل الملايين للاستماع إلى كلمات تتمتع بسلطة ترهيبية عالية لا تعترف بحرية الرأي أو التنوع أو الفردانية.


عندما يصبح الفساد ثقافة يتم الاحتفاء بها كل يوم ويتم زرعها في عقول اجيال متعاقبة من خلال ممارسات يومية تمجد السرقة والقتل والتخريب العشوائي، بينما تتراجع ثقافة التعلم والبحث والاستقصاء أمام ثقافة غيبية ترسخ الخنوع والهوان والرضى “بالقضاء والقدر” وتفرغ الانسان من كرامته لتجعله كائناً مشوهاً يسعى لاشباع المحددات الاساسية للبقاء والاستمرار وحفظ النوع، يصبح النص الادبي هدفاً سهلاً لتفريغ ما يعترينا من احباط وانهزامية أمام كل مشاكلنا وازماتنا التي نعايشها، ولا ابالغ بالقول بأن البذاءة هي هذه الثقافة الفاسدة التي نعيشها، لتجعلنا اسرى نمطية تحصر البذاءة بما ينتجه الادب، بينما تمارس هذه البذاءة في كافة مناحي حياتنا الاخرى من وراء حجاب من الفضيلة المنافقة.

_______

* لوحة رقم 9 للفنان الامريكي التشكيلي مارك روثكو.