عزيزي مالك


الرابعة صباحاً ولا جدوى من النوم، تقلبت في الفراش تكورت على نفسي، نظرت إلى السقف المظلم حاولت أن أجذب النوم إلى لكن لم ينفع، وجدتني أجلس لأكتب لك بعض هلاوس ما وراء النوم.. في كثير من الأحيان أجد نفسي مضطراً لرفع سماعة الهاتف لمكالمتك، أنت في ما وراء المحيط وأنا هنا في هذه الجزيرة التي خرج منها كل شيء ولم يعد إليها، أتخيل، ولا أتذكر، أتخيل الماضي الذي حدث في وقت من الأوقات في قارة الصحراء استغرب أن هكذا أشياء قد حدثت، بل أنني وصلت إلى درجة بهتت فيها ألوان مدينتنا هناك.. وماذا بعد، ماذا يجدي بعد؟ هل أخبرتك أنني الآن أتمنى أن أعود لأنصب خيمتي المفردة في داخل غابة من أشجار الصنوبر وأن أشعل موقد من حطب الشجيرات أضع عليه سخاناً من الشاي، أتجرع بعض الرشفات اتدفاء بآخر الجمرات، استنشق رائحة الدخان العالق بكنزتي الصوفية لأشعر بعدها بحاجة للراحة، أدخل الخيمة أغلق بابها، أتكور داخل كيس النوم، يغسل الفجر الجميل سقف الخيمة بالندى تصدح أولى العصافير احتفالاً بالفجر، ولينتهي كل شيء بعدها، لينتهي كل شيء، عندها سأكون سعيداً، وسيكون لي وجه لا حزن فيه.. هذه رؤية تتملكني منذ ما يقارب العام الآن، كلما مرت بخيالي أشعر بالنشوة التي لم أجربها بعد..

 

ويبقى السؤال ينشر حزنه المقدس علي، هل يستحق الأمر كل هذا؟ هل يستحق أن نخرج من أرضنا إلى أرض أخرى طلباً للوهم الذي نلاحقه كقرص الشمس، هل يستحق الأمر أن نحزن أن نفترس أحلى أيام عمرنا، هل يستحق أن نقف تحت الثلج، البياض يلفنا ونحن نتقي البرد طلباً لشمس ساطعة وبحرٍ بكر يلمع بإغواء، بحر في الأفق الذي تركناه وراءنا طلباً لشيء لم نطلبه ولكننا اخترعنا ملايين الأسباب لتبريره..

  هل يستحق؟  أنا لم أعد أريد شيئاً من هذه الحياة سوى أن تتركني أختار ما أريد أن تأتِ تلك اللحظة، لحظة اليقين، لحظة ذهاب البصر من الأحداق وجمود الزمن، أن تتركني أنعم بتلك اللحظة تحت خيمتي.. ولكن لا مفر من المواصلة مادامت هذه اللعنة تستمر في النزول علي، ومادام القلب لم ينفجر بعد، ومادام ذلك الرمادي الكئيب المحاصر وراء جداره الكلسي بين كتفي يتمرد…

 

لقد تجاوزت الرابعة بقليل.. ومازلت أتوهم أشياء حدثت قبل أقل من عشر سنوات بقليل، أتوهمها وأتساءل هل حقاً حدثت أم أنها كانت حقاً مجرد أوهام بعيدة عن الحقيقة، صباح مظلم، في مقهى الكلية أنت بشطحاتك الطفولية ترتدي بذلات ذات خطوط قديمة وتسرح شعرك إلى الأمام، تشعل أولى سجائر الشباب الوردي، أنا أقف بتسريحة شعري الكلاسيكية، وبملابسي البسيطة التي جاهدت أن تكون أنيقة ومرتبة، نتجرع أكواب الشاي نستمع إلى أغاني من زمن الرومانسية، (please forgive me) (now and forever).. نستمر في الضحك وتذكر أيام العسكرية في (وريث) نحاول أن نتحدث بجدية وخلق صورة لأنفسنا بعد سنة أو سنتين وهي أقصى ما نصل إليه من خيال فلا نستطيع، أتوهم عندما عدت من مصر بعد أن أجريت تلك الجراحة على عينيك تقف عند باب المدرج ترتدي السواد، تضع على عينيك نضارة داكنة.. أتوهم الكثير، أتوهمك، أتوهمكم، أتوهمهم، أتوهمنا، أتوهمها، أتوهمه، أخيراً أتوهم نفسي.. هل حقاً حدثت تلك الأشياء، أم أنني عشتها في أحلامي، وإن كانت حقيقة لماذا أنا وحدي الذي ما زالت تؤرقني، لماذا مازالت تتملكني وتسكنني وتحيلني إلى عوالمها، لماذا علي أن أحمل هذه الصخرة على كتفي، ولا أحد ممن حولي يتذكر شيئاً من هذه الأشياء.. اكاد انكر كل ما حدث في الماضي وما يحدث في الحاضر وما قد يحدث في المستقبل.. أتدري ما الذي يدفعني للأمام في مرحلتي هذه، إنه مشهد الجنة… نعم.. ليست جنة الآخرة ولكن جنة الدنيا، فلقد شاهدت ما يشبه تلك الجنة، في تلك الليلة وقفت عند حافة البحر، بحيرة (جودائم)، عند حافتها كانت الأمواج البسيطة تتخذ طريقها إلى الرمال الندية، تقترب من قدمي العاريتين تلمسهما وتتراجع وفوقي كان القمر بدراً بأقصى ما رأيت من نور في حياتي في كبد السماء والنجوم في صفحة سماء ليست بالسوداء ولا بالزرقاء، زرقة داكنة حد السواد، تلتمع المويجات بضوء القمر والرمال تتلألأ وحولي كانت الصخور تضفي للمشهد المزيد من القدسية أما صوت البحر من وراء المشهد فكان يعد بجنة أكثر رحمة.. هذه كانت صورة الجنة وما تبقى هو منظر الجمرات الصنوبرية القليلة في الموقد أمام الخيمة ووجه لا حزن فيه..

 

عزيزي مالك لقد طلبت مني أن أكتب لك شيئاً خاص، ولا أدري إن كنت قد كتبت أصلاً، ولا أدري حتى وإن كنت قد كتبت، أنني كتبت شيء، كل ما أرجوه أن تعفو لي حزني المقدس، وأن تقبل اعتذاري إن كنت قد أعدت بعضاً من صور الوهم القديم، فأنا كما قلت لك لم أعد أؤمن بالكثير من الأشياء..

 

 لك التحية أيها العزيز على القلب والخاطر… الساعة تقترب من الخامسة صباحاً والكائنات الصباحية تبدأ في الظهور.. وعلي العودة للفراش.. علنّي..

 

المخلص أبداً

غازي

 

مانشيستير – 29 أبريل 2003