.. أستلقي على الكرسي واضعاً رأسي على المسند، مرخياً رجليّ على ظهر الكرسي الذي يشبه الكنبة.. تيار من الهواء البارد ينبعث من وراء الواجهة الزجاجية التي تفصلني عن صالة انتظار المغادرين.. أشد ياقة السترة حول رقبتي، في هذا الجو الخريفي لا مفر من محاولة التظاهر بالدفء.. أنظر إلى عزيز الملتف حول نفسه، أمعن البصر في نظارته ذات العدسات الغليظة والتي فقدت إحدى ذراعيها قبل أسبوعين. يوم ثالث يمر ونحن عالقين في مطار (شارل ديجول) بباريس، غداً صباحاً موعد اللحاق بالطائرة التي تأخرنا عنها قبل ثلاثة أيام. بعد أن تحصلنا على ختم الخروج، لم يسمح لنا بالعودة إلى المدينة، ما إن شاهد الضابط المسؤول جوازات سفرنا الخضراء اللون حتى لوح بيده وهو يرطن بالفرنسية “نو.. نو”، لنجد أنفسنا نقيم في صالة الانتظار بالمطار، استنفدنا وقتنا في الحديث والحديث ومراقبة المسافرين الذين ما إن يجلسوا لبضع دقائق حتى يغادروا لصعود طائرتهم، ونحن نواصل عدّ الدقائق المملة. لم يتبق في الجيب من الخمسائة فرنك التي سلمت من التبعثر سوى بضع فرنكات قد لا تكفي لوجبة إفطار في مقهى المطار، علبة التونة المتبقية تناولناها عشاءً أخيراً هذه الليلة. منتصف الليل ولا أحد بصالة المطار سوى بعض أفراد من الأمن الذين تعودوا على وجودنا محاصرين في هذا المكان، الرحلة الأخيرة القادمة من أسبانيا انفض ركابها ليذوبوا في ليل باريس الخريفي..
**

وجدته مستلقياً على الفراش، لم يكن يوحي شكله بالراحة التي طلبها ببقائه في الحجرة، على الرغم من أننا أنجزنا ما جئنا من أجله ونستعد للعودة، لم يكن بمزاج للخروج هذه الليلة، لذا قررت الخروج بمفردي للقاء ماجد بسان جيرمان. حاولت العودة مبكراً، وجدته في الظلام يحدق في التلفاز المثبت بأعلى الجدار، ماسكاً جهاز التحكم عن بعد، ينتقل من قناة إلى أخرى. يبدو أنه تخلى عن الإمساك بنظارته المعطوبة وألقاها جانباً، أعرف أنه لا يستطيع التمييز بدونها، على الطاولة الصغيرة بدت آثار قطع من الخبز وعلبة تونة ملقاة بسلة المهملات. بدت الحجرة الضيقة أشبه بزنزانة في فندق بنجمتين، يبدو أن شياطين زمن بعيد قد عادت لتنهشه في هذه الأمسية. القمر يسكب نوره من خلال الستارة المواربة أمام النافذة الصغيرة، نظر لي وهو يحاول أن يميز ملامحي، ربما كان يعتقد أنني أحد تلك الشياطين القديمة. ضغطت على زر الإضاءة، أغلق جفنيه اتقاءً للنور، ألقيت بحقيبتي جانباً، انتظرته حتى فتح عينيه مجدداً. انتظرته حتى يبدأ بالكلام، وضع ابتسامة مبهمة وقال “لم تتأخر، هل قضيت وقتاً ممتعاً” أجبته “حاولت ذلك. كان عليّ أن ألتقي ماجد لنقل حقيبته من فندقه الذي طلبوا منه مغادرته، لنبحث له عن مكان جديد..” سكتت لبرهة، نظرت إلى التلفاز، مشاهد من مباراة لكرة القدم، تابعت بحذر “وأنت… يبدو أنك قضيت وقتاً ممتعاً..!” كنت أعرف أنني أقترب من حقل الألغام لكنني أحاول أن أخرج بأقل الخسائر.. تململ في الفراش، استعاد نظارته وثبتها فوق أنفه. “لا أدري.. هل كان ممتعاً؟ بل هل كان وقتاً؟ أم هل قضيته بالمرة؟. الضجيج يملأ المكان رغم ضيقه.”. أجبته ” كان من الأفضل أن تخرج معنا..” تمتم وهو يضع رأسه على الوسادة ويتلفع بالأغطية “ربما غداً، ربما غداً”.سألته “هل ستنام..؟”. أشار بحركة برأسه بالإثبات “حسناً هل أغلق التلفاز أم أتركه..؟”  أشار بحركة لا مبالية من يده، تركته وذهبت لأبدل ملابسي. 

سألته قبل أن أخلد للنوم “على فكرة هل أكدت على حجز رحلة العودة إلى طرابلس بعد غدٍ”. أجاب بصوت نائم “نعم قد فعلت، ستقلع الطائرة السابعة والنصف صباحاً، علينا أن نترك الفندق باكراً لنلحق بالموعد”. غمر الحجرة ضوء القمر عبر النافذة. “أرجو أن نلحق بها..” أردفت وأنا أتحسس موضع الفراش بالظلام، سمعت شخيره يرتفع، دائماً يسبقني في الاستغراق بالنوم، خمنت أن شياطينه ستقضي ليلتها بالخارج تنتظر قدوم الفجر، بينما كان لدي موعد اجباري مع شياطيني لهذه الليلة.
**

كانت قطرات المطر قد غسلت الشارع أمامنا، أشجار الكستناء تحاول أن تتشبث بما تبقى لها من خضرة مع بداية خريف جديد، خرجنا باكراً للاستمتاع بهذا اليوم المتبقي من رحلتنا، سان ميشيل لم يكن مزدحماً. الأزقة الضيقة المبلطة بالحجارة منحتنا بعض الاقتراب من المدينة القديمة بطرابلس. على جوانب الزقاق محلات لبيع المشاوي، كباب، كفتة، شاورما على الطريقة التركية، اليونانية، القبرصية، اللبنانية، في طرف الشارع اخترنا الجلوس بأحد المقاهي، طلبنا قدحين من الكابيتشينو والكاكاو وبعض قطع من الحلوى. 

أخرج ماجد علبة سجائر الدافيدوف الأنيقة، وضع سيجارة بين شفتيه وأشعلها، علقت “هل حقاً قررت أن تبدأ بالتدخين..؟” أجاب وهو ينفث النفس الأول “أنا لا أدخن.. هذه مجرد تسلية لا أكثر” أجبته وأنا أبتسم بخبث..”نعم تسلية ذات رائحة خانقة، وخاصة أنك تجرب كل أسبوع نوعاً جديداً من السجائر، وبالأخص هذه العلامات التجارية الفاخرة..” ابتسم بدوره لدعابتي “أنت تعرفني.. أحب أن أكون غريب الأطوار”.

ارتشفت بعض الكاكاو.. أحسست بالدفء يغمرني، أتسلى بعلبة الثقاب.. “إنك لا تحتاج لأن تخبرني بذلك..”.

أشار لي في تلك اللحظة لأنظر إلى الجانب الآخر من الرصيف، حيث كانت باريسية حسناء تتهادى من الطرف الآخر، يعرف أنني لن أبالي كثيراً بهذا المشهد، لكنني رحت أستمتع معه بالمنظر.. بعد أن مرت، قال ” لا تخبرني أنها لم تعجبك..” قلت له “جيدة ولكنني لست بمزاج لأستمتع بالمناظر المكتوب عليه ممنوع اللمس..” أجاب ” أتدري ماذا يسمي عزيز حالتنا المزرية” قلت له “ماذا.. أرجو أن لا تكون إحدى نظرياتك الجديدة!” قال “كلا.. كلا إنه يسمي ما نحن عليه (الإخصاء الإجتماعي)..” صحت باستنكار “ماذا؟” تابع حديثه “نعم، لقد قام المجتمع بإخصائنا، فنحن أصبحنا أشباه رجال”.. رحت أتخيل نفسي بلا خصيتين.. شعرت بالألم لمجرد الفكرة. نفضت الخيال عن رأسي، وأجبته “دعنا من هذركما، وأخبرني متى ستقلع طائرتك؟” نفث آخر نفس من سيجارته وراح يطفئها بالمنفضة “بعدكم بيومين.. سأقضيها بالتسكع على ضفاف السين”. 

تجرعت ما تبقى في القدح.. وقفت استعداداً للذهاب.

“دعنا نتحرك، فلا أريد أن أتأخر الليلة فأمامنا سفر مبكر غداً، أنا وعزيز..” تركنا المقهى وسرنا باتجاه الضفة الأخرى من النهر، حيث كنيسة نوتردام التي كنت ساحتها تغص بالسياح القادمين في محاولة خيالية ربما للقاء أحدبها الذي انتحر على عتباتها. رائحة المطر المتساقط قبل ساعة بدأت تتلاشى تدريجياً. “هل أخبرتك بنظريتي الجديدة..” أردف قائلاً. هززت رأسي بلا مبالاة أو ربما للإجابة بالنفي.. أخذت نفساً عميقاً وأجبت.. “كلا لم تخبرني..!” أجاب “حسناً.. هي كالتالي.. النظرية الوردية. تخيل معي أنك تستيقظ صباحاً وبدلاً من أن ترى الأشياء والعالم من حولك بألوانها الحقيقية تراها باللون الوردي وأن العالم أصبح وردياً وأن الناس أصبحوا ورديين وأصبحوا يتصفون بنعومة وسكينة هذا اللون الجميل وأن علاقاتنا أصبحت وردية…… 

صوت سيارة الشرطة المارة بسرعة شل ما تبقى لدي من حواس…
**

البحر كان هادئاً هذا الصباح.. الباخرة تقترب من الميناء وأبراج ذات العماد بدت تلوح في الأفق وبالقرب منها فندق باب البحر، طرابلس تبدو بهية ورائعة في هذا الصباح الخريفي الصافي، الكثير من الشباب راحوا يستعدون ببضاعتهم التي جلبوها معهم..

وصولنا إلى مالطا بالأمس كان سلساًَ على الرغم من التفتيش الدقيق الذي أجري لنا قبل دخولنا الباخرة التي ستقلنا إلى طرابلس. بعد ليلة هادئة ونوم جيد على سرير حقيقي بعد أن قضينا ثلاث ليالٍ على كراسي مطار (شارل ديجول) غير الصالحة للاستعمال الآدمي، بدا وكأننا لم نغادر طرابلس بالمرة.. بدأت الباخرة تناور للرسو بالميناء. حملت حقيبتي، بينما كان عزيز يلحق بي حتى وصلنا إلى بوابة الباخرة الرئيسية، عدد كبير من الشباب كان يتجهز للخروج بحقائبهم الكبيرة والمليئة بالبضائع المجلوبة من مالطا، تركيا، تايلاند وحتى الصين. تسمعهم يسرعون للوقوف خلف بوابة السفينة، عدد كبير منهم كان قد أفرغ بضاعته من السجائر المستوردة والحلوى والملابس من صناديقها الكرتونية ليقوموا بترتيبها في حقائبهم ليسهل تفتيشهم ومنح بعض الهدايا لمعارفهم في الميناء للخروج بأقل الخسائر ومن ثم الحصول على ربح ولو قليل في السوق.

ما إن فتحت البوابة، حتى خرج العشرات من الركاب مسرعين إلى عنبر الجمارك لتجنب الزحام، وقفنا في طابور يؤدي إلى داخل المبنى في انتظار دورنا للمرور على ضباط الجمارك، لم يمر وقت طويل ليصل دورنا، أمامي كان أحد الشباب، الذي يبدو أنه لم يتجاوز السابعة عشرة يلملم حقيبته التي تبعثرت، قمصان وملابس مختلفة الأشكال والألوان، بالقرب من الضابط كانت هناك كومة من الصحف والمجلات التي تمت مصادرتها، كنت أعرف أن هذا سيحدث لذا تخلصت من الجرائد العربية والإنجليزية التي رافقتني طيلة مدة إقامتي المؤقتة بالمطار الباريسي. وصل دوري، حاولت أن أكون بشوشاً ولبقاً.. لكن لا علامة تدل أن هذا سيجدي، لذا فتحت حقيبتي التي قلبها هنا وهناك، وعندما لم يجد شيئاً ذا قيمة أمرني أن أفتح حقيبة الكتف التي تحوي كتبَ الدراسة. طلب أن أخرجها لكي يقلبها. ابتسمت له وعلقت:

“كتب دراسة.. قراية يا أفندي..” رماها جانباً ورد بامتعاض.. “حسناً.. حسناً.. بإمكانك الذهاب الآن” لملمت الكتب وحملت الحقائب وتوجهت إلى شباك أمن الميناء للحصول على ختم الدخول، لكنني لم أخطو خطوتين حتى سمعت صوتاً جهورياً ينادي بهلع..

“أيه.. أيه.. يا شاب، وين ماشي، أوقف” وحيث أنه لم يكن اسمي شاب ولم أكن لوحدي في هذه الفوضى تابعت سيري.. إلا أنه وضع يده على كتفي.. التفتّ له وقال:

” ماذا.. ألم تسمعني أنادي عليك..؟” رددت “آسف، لم أعتقد أنك تقصدني، خير ماذا هناك؟” أشار بيده إلى جيب سترتي “ما هذا؟” أجبته “ماذا تقصد؟” رد وهو يمد يده “هذا الذي بجيبك..” وضعت حقيبتي على الأرض واستخرجت رواية باللغة الإنجليزية وأجبت ببلاهة:

“آه.. هذا مجرد كتاب.. رواية” رد بامتعاض “دعني أرى..” أمسك الكتاب بالمقلوب وراح يتصفحه بلا مبالاة، ثم مده لي..”ماشي.. ماشي.. بإمكانك الذهاب”.

ارتفع في تلك اللحظة صوت صافرة الباخرة ليشل ما تبقى مما تبقى من حواسي المعطلة.. لأخرج إلى الشارع بمحاذاة محطة سيارات الميناء، أنظر إلى السماء، إلى البحر، إلى الطريق، إلى وجوه الناس، فأراها بلون وردي باهت، رائحة البحر وردية والشمس تلقي بحممها الوردية، حتى وجه أخي الذي أتى لاستقبالي بدا وردياً، ابتسمت له.. وقلت ” هل سمعت آخر نكتة…… لم أجد فرصة لأبدأ بسردها، فقد وجدت الجميع يسقطون من شدة الضحك.. أخذت نفساً عميقاً، شعرت بمرارة وردية في حلقي ولكنني شاركت الجميع ضحكهم…
_______
للاطلاع على مقالة محمد بعيو المصراتي والتي نشرت بصحيفة القدس العربي حول هذه القصة القصيرة اضغط
هنـــــــــــــــــــا.