قصة: عزة كامل المقهور


يتماوج صوته المميز كالعلم عبر اثير إذاعة الزاوية المحلية التي كانت تصدح حتى طرابلس. حنطي البشرة، يسترسل شعره الأسود الفاحم على كتفيه، غالبا ما يرتدي بنطالا من الجينز مع فانيلا أو قميص، فيبدو كثوار امريكا اللاتينية أو الباسك.

يقطع المشوار إلى طرابلس في نصف ساعة، كان دائم الذهاب اليها، يكتب شعره في الزاوية وغالبا ما يلقيه في طرابلس ثم يعود كالفراش.

من أوائل الأصوات التي صدحت بالحرية ونادت بها عبر المحطات التلفزية، وكان أول صوت يطالب “برحيله” مباشرة عبر محطات التلفزيون مخاطبا اياه ” إرحل” !

لم يتخف أو يتخذ هوية زائفه، بل كان يتحدث بإسمه كاملا “ربيع شرير” من مدينة الزاوية.

حل الربيع قبل أوانه في الزاوية، تفتقت براعمه، واخضرت اعواده الطرية، ونما العشب في حديقة الميدان المهملة ولم تشهد الزاوية ربيعا كهذا، خرج السكان من بيوتهم رجالا ونساءً حاملين اطفالهم على أعناقهم… خرجوا فتية وفتيات نحو الميدان الذي يتوسط المدينة. يتجمعون كل مساء، يوقدون النيران في الساحة، يجلسون في حلقات، ينظمون الشعر ويلقونه، يصدحون ” ياشباب الزاوية نبوا ليلة ضاوية”. يهتفون بحناجرهم حتى الصباح  “بالروح بالدم نفديك يابنغازي”، بينما يتلقفون بشفاههم الجافة من حرارة الهتاف قطرات المطر المتساقطة ولا يبرحون الميدان. نصبوا هناك الخيام، وصفوا الكراسي البلاستيكية البيضاء، واشعلوا الكوانين ليتدفئوا بلهيبها ويكركرون على جمراتها الشاي الأحمر. نصبوا مكبرات الصوت، وأقاموا معارض الكاريكاتير والتشكيل. فلا يبرح الشباب الميدان إلا بعد الفجر.

تحلق من فوق رؤوسهم طائرات الهليكوبتر المحملة بالمرتزقة كالغربان تحجب عنهم أشعة الشمس وتغلف آذانهم بهديرها للحظات ، تلفظ حمولتها على مقربة منهم، يرفعون رؤوسهم، يتبعونها بنظراتهم، ولا يأبهون لها

لم يكن  ذاك الميدان يحمل إسما، يحده جامع، وعمارتان عاليتان، وحديقه مقفرة إلا من بعض اشجار الزينة تسقط حبيباتها الصلبة على أجزاء ارضها المبلطه فتدهسها الأقدام، وبركة رخامية جف ماؤها منذ زمن.

< div class="MsoNormal" dir="RTL" style="direction: rtl; text-align: justify; unicode-bidi: embed;">

شعروا بالأرض تهتز من تحت أقدامهم، وسمعوا هدير الجنازير وهي تقترب شيئا فشيئاَ، ولكنهم لم يبرحوا أماكنهم في الميدان، حتى طوقتهم….. إنضم بعض أفراد القوات المسلحة إليهم وأعلنوا أنهم معهم حماة الديار. وسكن كل شئ  من حولهم إلا هم… يتظاهرون حتى الفجر وهم يغنون.

تنسموا الحرية التي تغلغلت في رئاتهم حتى لم يبق في شعيراتها الرقيقة المتفرعه سوى الأكسجين النقي.

حتى كان ذلك اليوم الذي رفعوا فيه العلم بنجمته وهلاله على طول العمارة الشاهقة  المطلة على الميدان. لم يستفزهم شيء كما استفزهم ذاك القماش الملون بالأخضر والأحمر والأسود.. أمروهم بإنزاله، فلم يأبهوا بهم، انذروهم وأغروهم بالأموال، فرفضوا.. واستمروا في التغني بحب الوطن وحب الزاوية… يستظلون بــ”بو نجمة وهلال” يرفرف فوق رؤوسهم.

استفزهم العلم… فأطلقوا الصواريخ على أهل الزاوية الذين قرروا دفن شهدائهم في حديقة الميدان، وهكذا سمي الميدان بــ “ميدان الشهداء“.

كان العلم يرفرف بينما “ربيع” يخاطب العالم من ميدان الشهداء ، يراسلهم بصوته الهادئ ولسانه العربي، يزودهم بتغطية يومية عما يجري في الزاوية، ويردد إن عليه “الرحيل“.

حتى كانت تلك اللحظة بعيد الفجر… حين خفت الحركة في الميدان، زمجرت الدبابات المصفحه وسيارات الدفع الرباعي المثبت عليها الرشاشات واقتحمته. اشتبكوا مع اهل الزاوية الذين لم يبرحوا الميدان، وحاول بعضهم صدهم بأسلحة خفيفة، لكن الدبابات قصفت العمارات المحيطة بالميدان والجامع الذي تحول جزء منه إلى مستشفى ميداني، واطاحوا بمئذنته، دخلوا المستشفى واختطفوا المصابين   وجثث الشهداء وقتلوا الأطباء.

استباحوا الزاوية، وعاثوا فيها فسادا، كانوا كالعقبان، ينقضون على مقابر الشهداء بالميدان ينبشونها بأظافرهم ومناقيرهم، ثم يحفرون الحفر ويخفونهم فيها. أما الأحياء من أهل الزاوية فقد أنقض عليهم الضباع  كما ينقضون على الأشبال، وكان من بينهم “ربيع“.

ظهر “ربيع” بعد أيام على شاشة التلفاز منتفخ الوجه والعين لايعي ما يقول…. كان كالزاوية الحزينة التي حاولوا تغيير ملامحها فغطوا ميدانها بالعشب اللامع وعلقوا  الخرق الخضراء على مبانيها وجلبوا اليها الصحافيين الذين سرقت أنظارهم المأذنة المحطمة والمباني المهدمه.

حل ربيع الزاوية قبل أوانه، لكن هاجمته زوابع القبلي، فقضمت  برياحها براعمه وأزهاره، وامتصت بوهج حرارتها رحيقه، فسقطت طريحة الأرض. ضرب المتفرجون اياديهم كفاً بكفٍ وتحسروا على ذلك الربيع، ولم يكن أحد لينتظر أية ثمار من هذا الموسم.

مضت الأيام ثقيلة مضنية واستبد الحزن بالزاوية وتبعثر اشبالها في الفيافي، فأضحت مدينة أشباح… احدودب ظهرها و أصفر وجهها، اختُطف شبابها وبناتها ورموا بهم في السجون المكتظة والحاويات الحديدية… نفثوا في الزاوية حقد المهزوم ومثلوا بها حتى تكون عبرة لما يجاورها من المدن… كانت تأن أنينا خافتا ولا تنادي أحدا، حتى عاد اليها أشبالها وفكوا عنها اصفادها، فتحررت، وعلت راية النجمة والهلال في ميدان الشهداء ترفرف من جديد..

لم يعد “ربيع” إلى دياره بعد، مازال مقيدا، وقد لا يعلم بأن الزاوية تحررت وأنها تهتف تناديه ورفاقه… “ياشباب الزاوية …. نبو ليلة ضاوية“.

17. 8. 2011