إلى ربيع شرير.. حراً أينما كنت
يختبئ النوم عند الفجر، لا اجد وقتاً لعقد صفقة معه هذه الساعة. أغرق تحت اللحاف في محاولة لتجنب خيوط الشمس التي تهاجمني، اتذكر قوله والشمس تخترق رؤوسنا ونحن نتجه غرباً. احس باختراق الرصاص في لحظة من حلم. المنبه يعلو صوته صادراً من هاتفي النقال، اضغط على الزر وامنع نفسي من تصفح اخر الاخبار القادمة عبر تويتر. القي بالجهاز جانباً واعبر المسافة بين السرير والحمام مترنحاً، مستنداً بالحائط. أقف امامي مواجهاً صورة الكوابيس في المرآة، يتدفق الماء في الحوض، بارداً ما يلبث أن يفتر. يقول لي أنهم باتوا يشربون مياهاً مالحة واخرى مختلطة بالطين. ألقي برأسي تحت المياه واحاول الوصول إلى صورة اخرى للمدينة ولكنها ما تلبث أن تختفي عندما تعلو اصوات المحتجين. اسقط بالقرب منه وهو يرفع شارة النصر.

**

كيف أنت يا صديقي. هل مازلت تقف في الميدان، في الساحة القريبة، تلتحف الاحلام وتعدنا بزاوية جديدة تعلن الفرح. كم تمنيت أن ابوح لك بالكثير لكنني اسمع صوتك عبر الجهاز وفي المقاطع القصيرة، تعدنا بربيع متجدد على هذه الارض. لم يعد للخوف مكان في حياتنا والقاتل ستلاحقه اشباح الموتى. كيف هو ألمك يا رفيقي، أعلم أنه لن يزول حتى بعد سقوطه، واعلم أنك ستحاول رسم ابتسامتك الدافئة وتقرأ علينا قصيدة جديدة بصوتك الرائق، تعدنا بربيع البلاد.

**

ما هو الامل؟

هل هو العيش في اضيق السبل والتطلع إلى سماء الظلام بحثاً عن نجم المساء، الابتعاد عن الحلم مخافة ضياع لحظة الترقب. أم أنه السير في الصحراء انتظاراً للمطر، أو انشقاق الارض بالماء.

تنحدر الطريق امامك. تقترب من بوابة السقوط، تحاذر ملامسة وجهك الذي اراق دمه. تلقي تعاويذه في نار الظهيرة وتهجر اليقين مستعيناً برغبة تدفعك للبقاء مهما كلف الوقت.

الوقت صنو الالم في هذا الطريق الممتد من مدينة تتاخم البحر وتغويه واخرى تبتعد عنه وتجافيه.

ما هو الربيع؟

أهو اخضرار الارض بالبشارة، قطرات الفجر وهي تغازل ازهار اللوز واصفرار الاقحوان مختلطاً باحمرار النعيم، أم انه صراخ المتعبين في ميادين الفرح، وقوفوهم تحت رايات الامل، رفعم لاصابع النصر. هل الوقت هو الموت؟!

يصفعهم كبرياؤك يا صاحبي، يلقي بهم عند حافة العدم ويبقي صوتك هو هو، مثخناً بالعذابات المرهقة، متوحشاً عند الضرورة ومبشراً بولادة درويش الزاوية الكبرى وهو يذوب في الوجد وليالي التوحد.

كم من الاصابع عليهم أن يكسروا؟! كم من الاعين عليهم أن يسملوا؟ كم ستكون قبورهم عابسة متجهمة تنضح بالفراغ. وتلك المعذبة بين سماء ورمال وبحر، ذلك الاتساع المرهق، والامتداد بلا نهاية. وبين امل يولد شرقاً وآخر يحترق غرباَ، تبقى صورتك تلتحف سماءنا، تعدنا بآخرة والقليل من ماء الامل.

**

عندما كتبت عن حلمي الوردي، حاولت أن اتلمس سخرية المشهد الذي نعيش. اربعون عاماً وبضعة سنين اخترقت اجسادنا، كنا كمن يقف في انتظار مجئ القطار على الرصيف. الوقوف كان مصيرنا الذي حملناه كزهرة صبار على صدورنا. وقفنا بالساحات ونحن نجبر على تلاوة شعارات الثورة الكالحة، وقفنا في طوابير الصباح والبرد يأكل اطرافنا لنسبح بملكوت الآله الآفل، أو ونحن نردد “نداء الراية الخضراء” والذي ما يزال يتردد في داخلي بكل سخافته.

قلت لك أنني أحلم أن ارى البلاد وهي تتشح بالوردي، ولكنك كنت اكثر جرأة ووعدتني بالبرتقال. تتردد في البوح بألمك وتجبر الكلمات ويتساقط البرتقالي من بين الاحرف التي تنهمر من حنجرتك.

جديرة بالمحبة
يوم يزهر البرتقال
جديرة بالمحبة
يوم يذبل البرتقال

تبقى صورة العسكري وهو يضربنا بعصاه الغليظة وأحياناً بسلك الكهرباء على اجسادنا، تغريهم مؤخراتنا اكثر، ويأمرنا بتحطيم ما تبقى من كرامة فطمنا عليها، والشمس تتأمر لتعذيبنا اكثر. نمضي في المسير نحو نهاية الساحة بينما ارى اخرين “يذنبون”، بين “بروك” و”قرفصاء” و”دحرجة” يصبح المشهد اكثر سخرية وقتامة، ولا يكتمل إلا بصورة جسد نحيل تنز من ركبتيه الدماء بعد مسير على الاسفلت. يتدحرج البرتقال من صوتك وانت تذكرني بأنها ما تزال جديرة:

جديرة بالمحبة
يوم يقطف البرتقال
جديرة بالمحبة
يوم يؤكل البرتقال

نقف أمام البوابة في منتصف الليل نتطلع للشارع الفارغ من المارة. بعد قليل تمر سيارة كادحة تتبعها اخرى تدل على الترف. يصفعنا سور المقبرة ونلمح في البعد ضوءاً باهتاً لا نعرف كنهه. في الليل تخرج اشباح “الثكنة” كما شأوا تسميتها ونستمتع بالمزيد من الارهاب وكأنه ينقصنا بعض الرعب لكي نصبح مواطنين لا نعرف للعصيان معنى. اتحسس البندقية الصدأة التي منحونا من بقايا مخلفات حروب خاسرة سابقة. استطيع ترديد اجزائها غيباً، لكنني لن اجرؤ على استعمالها. أكره أن اراك تصرخ في الظلام، اكره تلك المخلوقات القاتمة وهي تمعن في تعذيبك، تعود إلى تذكيري ببرتقال سيتساقط فوق ربيع محبتنا.

جديرة بالمحبة
يوم يزرع البرتقال
يوم يقتل البرتقال
ثمة فتاة تبكي
في الركن اليابس من الحقل
دموعها البرتقال*

**

يهجرني النوم لليلة أخرى، وارحل من تخوم طرابلس إلى مشارف الزاوية، راجلاً، مقترباً من المدينة مروراً بصنوبر جوددائم المنتهكة، مازلت اراني اسير من غرب إلى غرب. تستقبلني عند الساحة اشباح الاشجار المحترقة، تلتف الخرق الخضراء بالمباني المحترقة في محاولة لمنعنا من رؤية البشاعة التي تسبقهم دائماً.

هنا كانت مثواهم الاخير، يحتضنون الارض التي من أجلها وقفوا حتى النهاية، وغير بعيد بقية ركام المسجد الذي كان يعدهم بآخرة أفضل، بعيداً عن الاحذية الثقيلة والرصاص المختلف الاحجام والقذائف التي لا تميز في اندفاعها المجنون قلب من ستخترق.

أراه مزهراً، متفتحاً، بين الركام والألم. ارى ربيع البلاد صارخاً فوق صوت المدافع، عابقاً بالحرية متحدياً رائحة الموت الذليلة.

10/06/2011
______
* نص للشاعر ربيع شرير بعنوان (البرتقال)