جمعة بوكليب 

الحق أفضل ما يكون حين يمتلك أسناناً قوية حادة تمكنه من مصارعة الباطل وتمزيقه إربا. وتجارب التاريخ اثبتت أن الحق الذي لا تحميه القوة لا يختلف عن موقف وجود أيتام على مآدب أناس لئام.

الحق، هذه المرة، في ليبيا تحميه القوة التي انبثقت على أرض الواقع الليبي في الداخل والضغوط السياسية التي يمارسها المجتمع الدولي من الخارج.

الحق في ليبيا كان دائماً متمثلاً في مطلب الشعب الليبي في العيش فوق أرضه بكرامة وانسانية وكان هذا الحق، طيلة أربعة عقود زمنية مريرة، يتعرض للازهاق لأنه لم يكن يملك اسناناً وكان على الشعب الليبي المغلوب على أمره وحقه مواصلة ابتلاع المرارات والتسلح بالصبر وانتظار لحظته التي سوف يمنحها له القدر والتاريخ.

في السابع عشر من شباط/فبراير2011 جاءته هذه اللحظة وواتته الفرصة.

انتفاضة السابع عشر من شباط/فبراير المباركة التي انفجرت في مدينة بنغازي المجاهدة وانتشرت في كل مناطق ليبيا الأخرى فرضت واقعاً جديداً على الارض، وتزامن ذلك مع وصول الادارة الامريكية والحكومات في الاتحاد الاوروبي إلى قناعة بأن نظام العقيد القذافي قد استهلك واستنفد وقته ووصل إلى نهايته المحتومة ويتوجب التخلص منه.

بنفس السهولة التي منحت بها امريكا ودول اوروبا نظام العقيد شهادة الميلاد في عام 1969 صادقت على شهادة وفاته وأعلنت بكثير من الازدراء والاستصغار تخليها عنه ورميه إلى حيث يستحق أن يكون هو وأنجاله وزبانيته وبلطجيته من عناصر اللجان الثورية الذين كانوا يجولون ويصولون في ليبيا كجيش احتلال.

لأول مرة، يشاهد العالم، على شاشات التلفاز، نظام العقيد معمر القذافي يترنح تحت وقع الضربات التي توجه إليه ويصير معزولاً ومهجوراً وعلى مقربة من حافة المصير التراجيدي الذي ينتظره والمتوقع له.

نظام العقيد الفريد في نوعه لم يترك لنا، نحن الليبيين، شيئاً يدعونا للنظر إلى الوراء تحسراً على فقدانه.

نظام العقيد القذافي لم يترك لنا، نحن الليبيين، شيئا غير الحسرة على أعمارنا التي أهدرها في عتم سجونه وفي غربة المنافي وعلى أعواد مشانقه التي كان يقيمها لنا في وسط الميادين العامة وأحلامنا التي أجهضها بقسوة وعنف، وثروتنا التي أضاعها في مغامرات سياسية تتصف بالحمق.

لذلك الأجدر لنا كشعب، منذ الآن وصاعداً، أن ننظر للامام، والاستمرار في شق طريقنا للامام رغم المصاعب، لأنه الطريق الوحيد المتاح للخروج من النفق الذي دخلناه على حين غرة منذ بداية الشهر التاسع من العام 1969.

النظر للامام، كما نتوقع جميعا، ليس سهلاً لأن الرؤية ما زالت غائمة، والطريق كما يعرف الليبيون مزروع بحقول ألغام.

هناك حقول ألغام من عدة أنواع وجهات غربية وعربية!

وهناك، أيضاً، ألغام محلية الصنع، وتنقصها جودة الالغام الغربية عالية التقنية والفاعلية لكن المعروف عن هذه الالغام المحلية أنها حين تعمل، من حين لآخر، فان انفجاراتها فاتكة. وهي الغام قديمة جداً زرعها الاتراك ومن بعدهم الطليان ولعب عليها نظام العقيد كثيراً، وهي ألغام ما زال يصعب رصدها الكترونياً من قبل الاجهزة التقنية الخارجية لأن مكوناتها تختلط بالتراب المدفونة فيه، وتعلم الليبيون عبر تجارب سنوات الجمر الطويلة فن تفادي السير في الدروب التي تقود نحوها.

الحق، هذه المرة، في ليبيا تحميه القوة ممثلة في قوة تمترس الشعب على أرض الواقع الليبي مدعومة بنصرة ودعم المجتمع الدولي الذي يدير بفاعلية منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي.

والمجتمع الدولي قادر على فرض وتطبيق قرارات هذا المجلس بالقوة العسكرية.

القرار 1970 الذي اتخذه المجلس، يوم الاثنين الماضي، هو بداية الغيث، والبقية في الطريق.

الادارة الامريكية وحلفاؤها من الحكومات الاوروبية، عقب بركان تونس وزلزال مصر، وصلوا إلى قناعة سياسية تؤكد على تغيير الاتجاه استراتيجيا نحو الجهة التي تهب نحوها رياح التغيير في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا والتعامل مع ما تحمله معها من حقائق جديدة أولها ضرورة التخلص من الانظمة العربية التي انتهجت سياسات قمعية سببت في ظهور التطرف الاسلامي الذي هدد مصالح الغرب في المنطقة، وثانيها السعي إلى المساعدة على احداث تغيير في المنطقة العربية يخرجها من حالة الركود السياسي والعسف والقمع الاسود الذي ميزها طوال العقود الماضية الأمر الذي يعني أيضاً القبول بإفرازات الواقع الثوري الجديد ثم محاولة استيعابها بغرض احتوائها أخيراً.

إن صرخة الحرب الاخيرة التي أطلقها العقيد معمر القذافي في أول رد فعل له علني على شاشة التلفاز عقب اندلاع الانتفاضة الليبية المباركة كانت صرخة مرعبة ليست لأنها مخيفة بل لأنها مثيرة للشفقة ، لأنها صرخة صادرة عن رجل أجبر على التجرع من نفس الكأس التي كان يذيقها بقسوة وحقارة وازدراء لشعبه المغلوب على أمره طيلة اثنتين واربعين عاماً، ولانها صرخة صادرة عن حاكم كان يظن أنه في مأمن من الخطوب، فإذا به بين يوم وليلة يجد نفسه يقف وحيداً يحدق في النهاية المحتومة له ولنظامه، ويدرك، في نفس الوقت، أن قدرته على ايقاف تلك النهاية المرعبة متلاشية. ولذلك فهو رجل يائس ويبدو، في هذه الاوقات، كحيوان جريح مطارد بعد تخلي الغرب عنه وبعد أن اخفقت حتى قوات المرتزقة التي أحضرها من افريقيا وغيرها من بلاد العالم في منع نظامه الهش من الانهيار أمام عينيه غير المصدقتين مدركا ومتيقنا أنه لن يكون هناك من يترحم على موته أو يتمنى له رحيلا طيبا أو يتحسر على اختفائه من خريطة العالم السياسية.

وفي الأخير:

‘ ما يقعد في الوادي إلا أحجاره’

وهذا يعني ببساطة متناهية:

ليبيا
الوطن
والشعب

والمستقبل الذي نأمل أن يكون كما يشتهيه أولادنا الذين دفعوا أعمارهم الغضة ثمناً له.
 _________
* نشر بصحيفة القدس العربي 03/03/2011.