كل الدروب تؤدي إلى غير مقصدك.. الجلوس عند النهر، اقتراب الريح من الحلم، رفرفة الغراب على رصيف المحطة، مشهد سقوطه في المياه.. نظرتك إلى رقمها وهو يظهر على شاشة الهاتف، هل تنتظرها؟ أم تغادر إلى الضفة الاخرى بدونها. يهتز الجهاز في يدك، وتجبره على الصمت بضغطة زر حمراء، تستنشق هواء هذا الغروب وتعبر الطريق الطويل فوق النهر إلى ساوث بانك، تسير بموازاة ظلك الذي يسابقك في السير نحو الشرق.

البعض يحبها ساخنة، ولكنك تحبها باردة، باحثة عن الدفء، يقولون أن المدينة وقفت على هذه الضفة وهي تراقب جسدها الباهر يرقص بشبق مع شياطين النار، في ذلك العام الذي نزل فيه الغضب من السماء، كانت القديس بول تزمجر بالغيظ تحت وطأة النيران التي اشتعلت فيها لثلاث ايام حتى احترقت بالكامل، لذا فالبعض مازال يحبها ساخنة ومحترقة، لكنك مازلت تحبها باردة، تثير الارتعاش.

عند غرينيتش، يقفز ذلك السؤال القديم والمكرر بملل، تعيده على مسامع الغائبين وتلك الجالسة لوحدها بالقرب من ظل حضورك، مازلت لا تجد اجابة مناسبة، اجابة تليق بها، احياناً لا يهم أن تكون الاجابة صحيحة ودقيقة بقدر أن تكون اجابة مناسبة ولائقة بما يتوقعه الاخرين منك. عند غرينيتش ينفصل الوقت إلى زمنين، واحد للماضي، وواحد لها.

تنزل الدرج الزلق، تقترب من حافة المياه، تلامس الطين المختلط بالاوساخ، وتحاذر أن تقع على الصخور الملساء، تكتشف أن رفيقك كان هناك طوال الوقت، يسير معك، يتابع خطواتك، وأنت تعيد قذف اللعنات إلى السماء، يقف بالقرب من الفتحة المسيجة والمزينة بالسلاسل الغليظة، يخطر ببالك القديس جورج وهو يقتل التنين فوق صهوة حصانه الابيض، لا تدري ربما كانت رائحة المياه ما اثارت هذه الهلوسة الاسطورية في عقلك، أو ربما قد تمكنت ارواح المدينة المتراكمة فوق بعضها من اقناعك برومانسية الجنون.

إنه يبتسم لك الآن، ينفث دخان آخر السيجارة، ويلقي بها في النهر، يسعل بعد ذلك بشدة، يسعل بموت، يسعل بلا خلاص، ثم يمسح المخاط المختلط بالدم من شفتيه بظهر يده، تسأله عن اسمه، لكنه لا يجيب، تكتشف أنك لا تستعمل اللغة الصحيحة، تعيد السؤال، بشكل مناسب، يفكر لبعض الوقت ثم يجيب “اسمي اريك”، يخيل إليك أنك سمعت هذا الاسم من قبل، ربما كان صديقاً قديماً، أو ربما كان أحد الشخصيات الخيالية التي تمتليء بها دفاترك المختنقة.

تقف بجانبه ناظراً إلى محطة باتيرسي الكهربائية المهجورة، بمداخنها البيضاء الاربعة العملاقة، يطلق سعلتين خفيفتين، ويقول لك أن نهاية العالم قريبة، تبتسم له وتقول له “فوك يو مستر اريك بلير”، وتخبره أن العالم قد انتهى منذ زمن بعيد وأن ما تراه هو مجرد صدى لتلك النهاية التي بدأت يوم ولد الكون. يسألك، إن كانت لديك سيجارة، تقول وأنت تدفعه إلى حافة الجسر، أنك توقفت عن التدخين منذ زمن وأن عليه العودة لقبره في قرية ساتون كورتني على ضفاف اعالي نهر الثيمز، يبتسم بجفاء قبل أن يرتطم جسده بالمياه.

تجد نفسك مواصلاً السير حتى باتني بريدج، تخبر رفيقك أنك رأيت، جورج اورويل وهو يطلق سعلة السل الاخيرة، وكيف أن العالم سينتهي، وكيف ارتطم جسده بمياه النهر. لا يندهش لهرائك السخيف، فهو ما يزال يلاحق شبح ذلك الايرلندي اللعين ذو العين الواحدة والمزاج الحاد، تصعدان القطار الذي يمتلئ في المحطة التالية بمشجعي نادي تشيلسي لكرة القدم وهم ينشدون شعارات التشجيع بعد فوزهم على نادي استون فيلا بسبعة اهداف مقابل هدف واحد، وهو ما لم يتردد الشاب الجالس بجانبك عن تكراره. تلتفت إلى رفيقك عن يمينك، فلا تجده، تلمحه وهو ينزل في المحطة ملاحقاً شبح نورا، يغلق الباب، ويتحرك القطار، تلتفت إلى شمالك فترى اريك يجلس بوجهه القبيح وسعاله الدموي وهو يقول لك “كل الدروب تؤدي إلى غير مقصدك”.