منذ أن أصبحت الانترنت الوسيلة الاساسية للتواصل والعمل والبيع والشراء وجني الارباح، أصبحت مسألة حقوق الملكية الفكرية من جهة ومجانية المعلومة والمشاريع التي تقدم من خلالها قضية ملحة وتحتاج إلى الكثير من القوانين التي تحكمها. عندما بدأت الانترنت في الظهور بشكلها الواسع مطلع التسعينات من القرن العشرين حاول مبدعوها أن يجعلوا منها الوسيلة الجماهيرية الاكثر انتشاراً والارخص ثمناً والمجانية في معظم الاحيان، وذلك لكسر احتكار شركات الرأسمال الضخم وتجنب أي تحكم سواء حكومي أو تجاري للشبكة والمعلومات التي تمر عن طريقها، ولكن هذا الحلم اليوتوبي لم يستمر طويلاً واصبحت الانترنت وادوات استعمالها يتم التحكم بها بواسطة قوانين السوق العالمية والشركات الضخمة، وهو ما جعل المنتجات التي تقدم عن طريقها ذات جودة عالية نتيجة للمنافسة التجارية التي تجبر المنتج على تحسين جودة ادائه وإلا فإنه سينتهي إلى الخسارة والافلاس.

وعلى الرغم من ظهور مصادر مجانية جديدة على الانترنت ابتدأ من البرامج مفتوحة المصدر وانتهاءً بموسوعة الانترنت الشهيرة الويكيبيديا، فإنه نتيجة لمجانية هذه المصادر وغيرها فإن الصورة التي تقدم من خلالها في وسائل الاعلام التقليدية وفي خيال المستهلكين وحتى في الاوساط الاكاديمية والبحثية على أنها مصادر ذات نفع ولكنها أقل مصداقية وجودة أو أنها تحمل شبهة أن من يديرها ويعمل عليها هم مجموعة من الهواة وليسوا من المحترفين الذين تحكمهم قواعد جودة وسلامة الانتاج في السوق العالمي، وهو ما جعل معظم هذه المصادر المجانية تلجأ إلى تحسين هذه الصورة بتبني الشكل العام للمؤسسة التجارية دون الحصول على الربح وهو ما يترتب عليه المزيد من القواعد التي تتحكم في جودة المنتج، وهو ما حدث مؤخراً مع موسوعة الويكيبيديا بوضعها للمزيد من القيود التحريرية لإستعمالها.

كثيراً ما تواجهنا معضلة في النتاج العربي الالكتروني على الشبكة العالمية والذي وإن كان لا يشكل إلا 1% من المحتوى العالمي إلا أن معظمه وخاصة الذي يقوم بانتاجه افراد مستقلون ولا يتبعون مؤسسات حكومية أو تجارية في العالم العربي، يتميز بمجانيته الشديدة، ليس المجانية من حيث أنه لا يفرض مقابل لتقديم خدماته ولكنه في نفس الوقت لا يلقى دعماً حتى من قبل مستعملي هذه المشاريع والخدمات، كما هو الحال مع الويكيبيديا مثلاً، ليس من الناحية المادية فحسب ولكن حتى من الناحية المعنوية، فلا نجد له ذكر في وسائل الاعلام التقليدية أو حتى من خلال المواقع المختلفة على الشبكة على سبيل الدعاية والترويج، بل إن تقديم التبرعات لهذه المشاريع ينظر على أنه نوع من الاستجداء، كما أن أي مطالبة بتقديم الدعم، لا تلقى اذاناً صاغية من احد، حتى من قبل من يستفيدوا من هذه الخدمات، لذا كثيراً ما نرى مشاريع عربية مستقلة على الانترنت تتوقف بعد أن ينتهي الحماس والمتعة عند المشرفين على هذه المشاريع، وتصبح استمراريتها صعبة مع تراكم متطلبات استمرار هذه المشاريع التي ترتفع تكاليف ادارتها مع ارتفاع حجم الطلب على خدماتها، وحتى لجوء أصحاب هذه المشاريع إلى طرق الاعلان الالكترونية المتوفرة على الشبكة لا تكاد تغطي الحد الادنى من تكلفة انتاج هذه الخدمات، كما أن عدم توفر الدعم المادي يعيق تنمية وتطوير هذه المشاريع على الشبكة العربية.

هذه الظاهرة ليست مقتصرة على المحتوى العربي للشبكة، ولكن هناك ايضاً معضلة مشابهة على الجهة الأخرى ذات المحتوى الانجليزي وخاصة مع ظهور الوسائل الاعلامية الجديدة مثل المدونات والبودكاست والفودكاست، فلكي تحافظ هذه الوسائل على استقلاليتها وترفع من مستوى ادائها للمنافسة في سوق المؤسسات الاعلامية الكبرى، يجب عليها ان تبحث عن التمويل بأي طريقة وخاصة في حال تفرغ المشرفين عليها للعمل من خلال هذه المشاريع.

سأورد مثالاً لبودكاست امريكي حول هذا الموضوع، وهو من اشراف الاعلامي الامريكي المستقل دان كارلين، والذي يقدم برنامجين (بودكاست) مسموعين على الشبكة هما (Hardcore History) و(Common Sense) الاول برنامج تاريخي متميز، اعتبره الافضل على الشبكة، والثاني برنامج شبه اسبوعي متعلق بالسياسة الامريكية المحلية من نظرة غير حزبية، وكان دان كارلين قد عمل في الثمانينات والتسعينات كمعلق اذاعي في عدد من القنوات المسموعة الامريكية ومن خلال خبرته الاعلامية استطاع أن يبدأ مشروعه الاعلامي الصغير على الانترنت وترك العمل في كافة الوسائل الاعلامية التقليدية لكي يتمتع بالحرية الكاملة في التعبير خارج المؤسسات الاعلامية العملاقة الموجهة فكرياً في الولايات المتحدة، ابدع دان كارلين طريقة متميزة لطلب الدعم المادي من قبل المستمعين، وهو أن يطلب منهم في كل حلقة التبرع بدلاور واحد على الاقل للبرنامج بعد أن يقدم أسباب ساخرة لذلك، من بينها أن مساعده في انتاج البرنامج وهو شخصية وهمية على ما يبدو، واسمه (بين) مريض ومصاب باكتئاب حاد نتيجة قلة الدعم المادي، ولكي نعالج (بين) ونقنعه بالاستمرار من الممكن أن نقدم بعض المال له، أو سبب آخر للتبرع والذي يفترض أنك اذا ألتقيت مقدم البرنامج في الشارع أو في المقهى فإنك حتماً ستعزمه على قدح من القهوة أو ربما كأس من البيرة في الحانة المجاورة، لذا فإنه لا يريد منك هذه القهوة ويتمنى أن تقدم مبلغ هذه العزومة في شكل تبرع للبرنامج، لكي يستمر على استقلاليته ويتم تطويره، كما أن دان كارلين يبيع بعض المنتجات الدعائية من قمصان واكواب تحمل شعار البرنامج، كل هذه الوسائل الغرض منها استمرار هذه المشاريع المستقلة والمتميزة.

عربياً اجد الكثير من المشاريع المشابهة والتي تفتقد الدعم من خلال التبرعات لعل من بينها البرامج المسموعة التي يقدمها الناشط على الانترنت محمد صالح كيالي وبشر كيالي من خلال عدة بودكاستات، بعضها لتعليم اللغة العربية والبعض الاخر لتعليم اللغة الانجليزية، كما أن برنامجهما التقني المتميز هايبرلينك بودكاست يتمتع بقدر كبير من المهنية العالية، وهناك عدد من البرامج المسموعة على الانترنت والمشاريع الاعلامية المستقلة من خلال اليوتيوب أو برامج الفودكاست مثل برنامج شباب صوت صورة التي يقدمه جاد الصاري وهيثم المهدي وعلي الطويل ومنير اشميلة، كما لكل منهم مشاريع متميزة أخرى على الشبكة، وهناك برامج شبيهة في دول عربية أخرى تعتمد جميعها على عنصري حماس ومتعة المشرفين عليها لتنفيذها، والتي بدأت في التزايد ولكنها تفتقر إلى الجدية والالتزام المهني والقواعد العامة لتنفيذها بجودة أفضل وكل هذا يعود إلى حالة عدم  الاحتراف وانعدام الدعم المادي والمعنوي لها.

مجانية الكثير من المشاريع على الانترنت كان عاملاً اساسياً في انتشار الانترنت في الدولة النامية والتي تعاني عديداً من القيود السياسية والاقتصادية التي تمنع وصول المعلومة بشكلها التقليدي، ولكن عدم دعم هذه المشاريع من قبل المستخدمين بالتبرع أو بالترويج لها سيجعل من استمرارها وتطورها أمراً صعباً وخاصة مع انعدام الدعم الحكومي لها مع ما يشكله ذلك في حال حصوله وضع المزيد من القيود على هذه الخدمات المستقلة، فهل سنرى يوماً ايقونات التبرع لهذه المشاريع تنتشر على المواقع العربية المتميزة أم أن مصيرها سيكون التجاهل ومن ثم الانقراض.