تمتاز الرواية الامريكية عن نظيرتها المكتوبة باللغة الانجليزية في بلدان أخرى، بتمردها وكسرها لأشكال السرد التقليدية واستكشافها لطرق وتقنيات سردية أكثر تطوراً وحداثة وذلك في فترات سبقت غيرها من مشاهد الرواية في العالم الانجلوفوني. وعلى الرغم من تنوع الاسماء والمدارس الادبية في الولايات المتحدة الامريكية، إلا أن ما يصل من روايات إلى العالمية لا يخضع لمعايير الجودة الفنية بقدر ما يخضع لتجاذبات سوق النشر العالمية وهو ما يجعلنا نكتشف الكثير من الاسماء الهامة على صعيد الرواية الامريكية المعاصرة تم تجاوزها ونسيانها لحساب الأسماء الرنانة أو تلك التي حظيت بشهرة عالمية نتيجة فوزها بجوائز دولية مثل، جائزة نوبل للآداب. 

قبل فترة قصيرة، وجدتني منجذباً للاطلاع على تجربة الروائي الامريكي الراحل (كيرت فونيغيت) Kurt Vonnegut بعد أن شاهدت عدداً من آخر لقاءاته المتلفزة والمسموعة وذلك قبل وفاته العام 2007 بعدة أشهر عن عمر ناهز الخامسة والثمانين، اعجبتني حينها نبرته الساخرة لما يحدث في العالم وخاصة مع تنامي الجدل حول سياسات إدارة الرئيس جورج بوش والتي ادت لحربين وركود اقتصادي عالمي ما نزال نعاني منهما حتى هذه اللحظة، كما راقت لي فلسفته الوجودية عن الكون والعالم وميله للتفسيرات العلمية في تحليل الظواهر الطبيعية. حينها بدأت رحلة محمومة لقراءة ما تقع عليه يدي من رواياته وقصصه ومقالاته المجموعة في كتب. وهو ما دعاني إلى اعادة اكتشاف هذا الروائي المتمرد والسوداوي المغرق في الاضحاك والسخرية والذي جمع في سرده بين أشكال أدبية وفنية مختلفة في اعداده لإعماله الأدبية في زمن الرواية التقليدية الخاضعة لمعايير اتفق عليها عشية نهاية الحرب العالمية الثانية والطفرة الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة في الخمسينيات من القرن العشرين.
 
ولد كيرت فونيغيت (الأبن) العام 1922 بمدينة انديانابولس بولاية انديانا لعائلة ترجع بأصولها إلى ألمانيا التي هاجر منها أجداده في القرن التاسع عشر. كان شغوفاً بالدراسات العلمية التطبيقية وهو ما انعكس على أعماله ذات الطابع الخيالي العلمي، وهو ما أهله لدراسة الهندسة الميكانيكية في منحة من الجيش إلا انه لم يواصل الدراسة بعد أن انتحرت والدته العام 1944، وهو الحدث الذي ظل أثره واضحاً طيلة حياته وظهر في كتاباته الروائية، وهو ما جعله ينظم إلى الجيش الامريكي المحارب في أوروبا ضد الجيش النازي الالماني، إلا أن المفارقة الساخرة، أنه أسر من قبل الجيش الألماني بعد أيام قليلة من وصوله الجبهة الأوروبية، ليبقى أسير حرب حتى العام 1945 ويشهد تدمير مدينة (دريزدن) الألمانية من قبل طائرات الحلفاء في فبراير من نفس العام وهو الحدث الأبرز مع تجربة الحرب العالمية في تكوين الوعي الثقافي والسياسي والمؤثر الرئيسي لكتاباته الأدبية بشكل عام.
 
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية  وعودته إلى الولايات المتحدة، ألتحق فونيغيت بجامعة شيكاغو للدراسة العليا في علم الانثروبولجي إلا أنه لم يتحصل على درجة الماجيستير حتى العام 1971 بعد ان تم رفض أطروحته العلمية قبل ذلك بعدة سنوات، وهو ما دفعه للتمرد على النخب الاكاديمية والثقافية التي سيطرت على النمط التقليدي في التدريس والعلوم، وشكل أساساً لتقنياته السردية الحداثية والناقدة للتنميط والقوالب الجاهزة.
 
بدأ كيرت فونيغيت حياته ككاتب بنشره لقصته القصيرة الأولى العام 1950، وصدرت روايته الأولى (البيانو الآلي) العام 1952 والتي تدور حول عالم مستقبلي تسيطر فيه الآلات على العالم والبشر، وواصل كتابته للقصص القصيرة حتى صدور روايته الثانية (حوريات تيتان) الصادرة العام 1959 والتي تدور احداثها في القرن الثاني والعشرين في عالم يتعرض لأولى الحروب بين كواكب المجموعة الشمسية. إلا أن أهم رواياته والتي منحته شهرة واسعة في الولايات المتحدة واوروبا كانت روايته شبه الذاتية عن تجربته كأسير حرب في مدينة دريزدن الألمانية والتي صدرت العام 1969 بعنوان رئيسي هو (المسلخ خمسة) وعدة عناوين ثانوية من اهمها (حملة الأطفال الصليبية)، والتي تشير إلى الحملة الصليبية الخامسة في العام 1212 والتي اشترك فيها العديد من الاطفال من المدن الألمانية، في مفارقة واضحة للحرب العالمية الثانية التي شارك فيها شباب بتجارب طفولية ليموتوا سدى وبلا هدف.
 

وتدور الرواية حول شخصية الجندي الأمريكي (بيلي بيلغرم) والذي يؤسر من قبل الجيش الألماني ويؤخذ مع رفاقه من الأسرى الامريكيين إلى مدينة دريزدن الألمانية والتي عرفت بجمالها المعماري والتي لم تتعرض إلى الدمار كونها احد المدن الآمنة المتفق عليها من قبل المتحاربين، والعنوان اقتبس من المسلخ رقم خمسة في مدينة دريزدن والذي استعمله الألمان كسجن حربي لجنود الحلفاء. وكعادة فونيغيت في معظم رواياته فإنه يمزج الواقع بالخيال العلمي الساخر، والذي يظهر في شكل ارتحال بطل الرواية (بيلي بيلغرم) إلى كوكب (ترالفمدور) ويتم دراسته من قبل الكائنات المتطورة في ذلك الكوكب ووضعه في غرفة زجاجية ضخمة في حديقة الحيوانات الخاصة بتلك الحضارة على ذلك الكوكب البعيد، وتظهر هذه الرحلات في صورة فقدان للوعي للبطل وكأنه يحاول الهروب من واقع لم يكن له يد في تكوينه. كما يحكي فونيغيت في هذه الرواية المشاهد البشعة للحرب والدمار الشديد الذي لحق بمدينة دريزدن في فبراير العام 1945 نتيجة غارات الحلفاء الجوية والتي استمرت لثلاث ايام متواصلة وراح ضحيتها في بعض الاحصائيات غير المؤكدة حوالي ربع مليون شخص. 

في السبعينات من القرن العشرين تحول فونيغيت إلى المزيد من التجريب في البناء الروائي الذي كان اساس مشروعه الادبي، وتوج ذلك برواياته الغرائبية (افطار الابطال) الصادرة العام 1973 والتي اصبحت من اكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة في ذلك العام، واستخدم فيها الكاتب العديد من التقنيات الحديثة مثل، الفصول القصيرة، المقاطع المقسمة في شكل نقاط مطولة، الرسومات التوضيحية المنتشرة على طول الكتاب والتي قام الكاتب نفسه بتنفيذها، إلى جانب ظهوره كشخصية ثانوية في الرواية ولقائه بأحد الشخصيات الرئيسية في الكتاب، وهي شخصية كاتب الخيال العلمي المغمور (كيلغور تراوت)، والذي ألتقيناه في روايات سابقة لفونيغيت، وهي احد العلامات المسجلة للكاتب بتكراره استخدام نفس الشخصيات في معظم اعماله.
 

بعد النجاحات المستحقة لأعماله الروائية الأولى، عاد فونيغيت لكتابة الخيال العلمي من منظور تدميري، حيث تلاحقت اعماله التي تخيلت الولايات المتحدة والعالم وقد تحول إلى صورة بشعة من الدمار والتفكك نتيجة اكتشاف اسلحة تدميرية اكثر فتكاً، أو نضوب مصادر الطاقة على كوكب الارض، والتي انعكست في روايته الخيالية الذاتية (تهريج) Slapstick الصادرة العام 1976، والتي يتخيل فيها الروائي امريكا في المستقبل وقد تفككت نتيجة الحروب على مصادر الطاقة، وتعرض العالم لعدد من الأمراض القاتلة، وسيطرة الصينين على ما تبقى من الطاقة العالمية، ووصولهم إلى المريخ بعد ان استطاعوا علمياً تصغير حجم الانسان حتى لا يرى بالعين المجردة وذلك للتقليل من استهلاك الموارد المحدودة المتبقية على الارض. كما كانت للحالة السياسية التي مرت بها الولايات المتحدة في السبعينات من القرن الماضي حضوراً في رواياته وخاصة حرب فيتنام وفضيحة ووترغيت التي اطاحت بالرئيس نيكسون.

يعتبر كيرت فونيغيت من الروائيين الامريكيين القلائل الذين مارسوا التجريب الروائي بشكل ابداعي، باستخدامه لغة انجليزية مبسطة ولا تنحو للتعالي على القارئ، إلى جانب استعارته لأشكال الكتابة الأخرى، كالتقرير الصحفي والسرد التاريخي، واستعماله الرسومات التوضيحية التي كان يضمنها رواياته، وكان الدافع الاساسي وراء تمرده على القوالب الادبية المتعارف عليها جزء من فلسفته التقدمية والتحررية من كل اشكال السيطرة والهيمنة الفكرية على جميع المستويات، السياسية والثقافية والدينية، كما عرف عنه لامبالاته المتطرفة بكل العادات والتقاليد الاجتماعية التي تدعي المثالية وتهدف إلى السيطرة على العقول البشرية.
 
وشكل الدمار اللامبرر الذي شهده كيرت فونيغيت في الحرب العالمية الثانية، وفي مدينة دريزدن تحديداً، أهمية في جعله من أشرس المناوئين للحروب في العالم واستعمل أدبه ومقالاته الساخرة للاستهزاء من مشاعر الكراهية العمياء والحروب والقتل المبرر باسم الشرعية الدولية، وهو ما جعله من الشخصيات البارزة في اليسار الليبرالي الامريكي المنادي بالسلام والمناوئ لسياسات الهيمنة والسيطرة الدولية التي انتهجتها الادارات الامريكية المتعاقبة.
 
كما لم يفصل كيرت فونيغيت بين صوته ككاتب وشخصياته الروائية الخيالية فهو شبه حاضر بكيانه الحقيقي من خلال السرد وهو ما منح الشخصيات التي ابدعها حياة شبه حقيقية، كما أنه لم يكتف بذلك وانما استخدم نفس الشخصيات بنفس اسمائها وتجاربها في رواياته المتلاحقة وكأننا نشاهد صورة مشهدية واسعة لحياة مستمرة لهذه الشخصيات سواء خلال الحرب العالمية الثانية أو مرحلة الخمسينات في الولايات المتحدة أو تنامي حدة الحرب الباردة في الستينات والخطر النووي المحدق بالعالم والذي كان يهدد بفناء البشرية أو بتحويلها إلى مرحلة متدنية في سلم تطورها، حتى أن شخصيات مثل (بيلي بيلغرم)، و(كيلغور تراوت) والتي تكررت في العديد من اعماله في أشكال مختلفة، منحتها حياة حقيقية مستقلة عن سيطرة الكاتب التي ابدعها، من خلال اقتباسها في كتابات أخرى لكتاب أمريكيين في السنوات الماضية.
 
ويجمع معظم النقاد أن كتابات كيرت فونيغيت على الرغم استخدامها الخيال العلمي في غالبيتها إلا أنها لا تصنف ضمن فئة الخيال العملي الاستهلاكي، كونه لم يتبع اساليب الاثارة والترفيه المستعملة في روايات الخيال العلمي التقليدية، فهو أقرب ما يكون لتجربة الكاتب (ألدوس هكسلي) في روايته (عالم جديد شجاع)، والكاتب جورج اورويل في روايته (1984)، التي استخدمت الخيال العلمي كاسقاط للواقع الذي عاشته البشرية في العصور السابقة، في محاولة لتقديم صورة واقعية مريرة للمستقبل.  
 
وما تزال كتابات كيرت فونيغيت والذي توفي العام 2007 تثير العديد من الجدل وتعود لواجهة الاحداث بين حين وآخر، ولعل سخريته السوداء، وخياله العلمي المرير، وبذاءته المضحكة، ولامبالاته بالتقاليد والأعراف هو ما جعل منه رمزاً للأدب الساخر والمتمرد، ولعل المفارقة الأخرى التي قد تكتشف في العقود القادمة، أن ما ابدعه من روايات خيالية، باحداثها وتفاصيلها الكارثية، قد نراه يتحقق بشكل لم يتوقعه أحد بمن فيهم كيرت فونيغيت نفسه.