تركز العديد من الدراسات الحديثة للشعر العربي المعاصر علي تنوع الأصوات التي برزت في العقد الأخير من القرن العشرين والتي بدأت تطغي عليها قصيدة النثر الحديثة، محاولة منها لبناء شكل جديد من الشعر بعيداً عن قواعد الوزن والقافية والتفعيلة، إلا أن قصيدة التفعيلة والتي تطورت خلال السنوات الخمسين الأخيرة ما تزال تستحوذ علي المشهد الشعري الحديث، بل أصبحت تتطور لتقدم أوجه جمالية أخري لم تكن معهودة في فترات ذروتها في الستينات والسبعينات.


ولعل من أهم هذه التطورات هو قدرتها علي تطويع اللفظة ووضعها في قوالب وأسيقة جديدة تساهم في نحت المزيد من المعاني التي تتجاوز الكلمة بمعناها المعجمي المجرد، هذا إلي جانب استغلالها للبيئة الحضرية التي نشأت فيها للتعبير عن هموم استحدثتها الأحداث الاجتماعية والسياسية في المجتمع، وهو ما يدفع الشاعر وتحت كم من الضغوط والمحظورات إلي أسلوب التواري وراء الأقنعة، سواء في شكل الأسطورة الشعبية أو الدينية أو في شكل التراكيب اللفظية المستحدثة أو بالاستعانة بالرمز الذي يلعب علي وتر المفارقات والأضداد.


يمارس الشاعر عبد الدائم اكواص هذه اللعبة اللفظية بشكل فني عال وهو ما نتلمسه من خلال قراءتنا الأولي لديوانه الأول الصادر عن منشورات مجلة المؤتمر بطرابلس العام 2005 بعنوان (آثار طفل في الرمال) والذي قدم له الشاعر المصري المعروف محمد إبراهيم أبوسنة وضم احد وعشرين نصاً شعرياً امتدت علي مساحة 74 صفحة من القطع المتوسط. يعرض الشاعر مجموعة من النصوص الشعرية التي ترواحت بين القصيدة العمودية القصيرة والقصيدة التفيعلية الحديثة بعدة تنويعات تمايزت في الجمع ما بين النثري والتفعيلي بطريقة مزواجة تبين مقدرة عالية علي التعامل مع شكلين من الشعر العربي الحديث باتا غريمين في ساحة تعج بدعاوي الإقصاء والنبذ لحساب هذا الشكل أو ذاك.


والديوان يضم عدد من القصائد ذات الموضوعات المتعددة، إلا أن العناصر الأساسية التي تربط معظمها هي الرومانسية المغتربة، إلي جانب لعبة المفارقات اللفظية التي يمارسها الشاعر بمهارة تمنحه بصمة خاصة به تميزه عن الكثير من أبناء جيله من الشعراء الشباب أو ما يعرف بموجة التسعينيين. كما أن الأسطورة الشعبية والغرائبية تحضر من خلال عدد من النصوص والتي ستحتاج إلي تسليط الضوء عليها بشكل متعمق في قراءات قادمة. في هذه القراءة الأولي لقصائد الديوان أخترت أحد النصوص والذي يمثل أسلوب الشاعر في إستخدامه عنصر التناقضات اللفظية والمعانيّة في التعبير عن حالة اللاجدوي أو عدم القدرة علي التعبير أو الإتيان بفعل الإرادة والذي ربما ينجر علي الحالة التي يمر بها الشباب في أوطاننا العربية المشتتة.


قصيدة الإصغاء.. إصغاء الصمت:


تمتلئ قصيدة الإصغاء بالأصوات والصخب بقدر ما تمتلئ بالصمت والسكون، القصيدة مبنية علي مفارقة الصمت أمام قدرة السمع عليالتركيز، أو عدم القدرة علي الكلام إما لفقدان الإرادة أو لأن الصمت أبلغ تعبيراً عن الحالة المعاشة.


أُصغي لهمْسِ سحابةٍ

نثرتْ علي أهدابنا ماءَ المطرْ

أُصغي لشدوِ حمامةٍ

في الصبحِ ترقُصُ في خَفَرْ

أُصغي لخشخشة السنابل

أُصغي لشجوِ كمنجةٍ

و الحزنُ تعْصِرُهُ الأنامل

أُصغي لهمْهَمْة الغصون

في الليلِ تخترقُ السكون

أُصغي لصوتِ قصيدةٍ

في الركنِ تلمعُ كالكمين


لذا يختار المرء إزاء الفجيعة أن يصمت ويكتفي بالإصغاء، وهنا نكتشف أن كم الأصوات التي أمتلأت بها القصيدة أكبر من حدود الحاسة السمعية المادية ولذا نراه يؤكد من البداية ومن خلال تكرار فعل الإصغاء بواسطة الركيزة الأساسية في القصيدة كلمة (أصغي). لتبدأ الأصوات في التتابع (سحابة وقت المطر… حمامة… سنابل… كمنجة… أنامل حزينة… غصون… قصيدة). ليتداخل فعل الرؤية مع فعل السمع من خلال تعبير المكانية والحالة وهما الركن واللمعان، إنها حالة العمي التي تري بسمعها لا ببصرها. إلي أن نصل إلي ذروة القصيدة أو الإصغاء بمقطع أُصغي إلي ذاكَ الأنين/ أُصغي لصمتِ الراحلين/ والقلبُ ينبضُ في العيون وهو من أبلغ المقاطع في عملية الإصغاء المعقدة. ثم نعود إلي الفعل من جديد لتتداخل أصوات أخري جديدة:


أُصغي لقعْقعْة السلاح

والأرضُ تنـزفُ و الجراح

أُصغي لتكتكةِ العقارب

والريحُ تعصفُ بالقوارب

أُصغي لأطفالِ التجارب

ولألفِ جيشٍ نائمٍ

من ألفِ عامٍ لم يحارب


لنري المفارقات ما بين أصوات حادة وقوية وغير ثابتة (قعقعة السلاح) وأخري متوافقة وضئيلة ولكنها تسبب نفس التوتر مثل (تكات عقارب الساعة) في ليلة مؤرقة، لنمر إلي عالم آخر لا أصوات له ولكن وجوده أكبر من الصمت الذي يلفه (أطفال التجارب، الجيوش النائمة).


لندخل إلي جزء آخر في القصيدة وهي أصوات بشرية حية من خلال الحوار أو الأسئلة علي لسان الصديقة وهي الأسئلة التي تمثل أساس الإصغاء في القصيدة أو هي السبب من وراء فعل الصمت إزاء الأسئلة الصعبة والعميقة عن (الماهية؟، المكانية؟، الكيفية؟، الإرادة؟)


أُصغي لصوتِ صديقةٍ:

من أنتَ ـ قلْ لي ـ يا وحيدْ؟

من أينَ جئتَ؟ و كيف جئتَ؟ و ما تريدْ؟

هل أنتَ شِعْر؟

أمْ أنتَ بحْر؟

هل أنتَ حرف؟

أم أنتَ نزف؟

هل أنت فجرٌ تائهٌ؟

أم أنتَ ماضٍ لا يعودْ؟ .


لتأتي خيارات الماهية في ثنائيات (شعر، بحر)، (حرف، نزف)، (فجر تائه، ماض لا يعود) وهي ثنائيات تلعب علي وتر المتناقضات المجردة وهي اللعبة التي يجيدها الشاعر عن جدارة.


لنعود إلي لعبة الأصوات من جديد ولكن علي مستوي آخر، وهو ما تحاول أن تحققه القصيدة من خلال تعمقها وتجاوزها مجرد فعل الإصغاء إلي ما هو أبعد:


أُصغي لـ(ريمٍ) و هي تصرخُ: لا أُريدْ

أُصغي لجرحٍ في الوريدْ

أُصغي لصرخةِ شاعرٍ:

سأصيرُ يوماً ما أُريدْ

أُصغي لأصحابي الكُـثُر

أُصغي …ولكنْ لا أثـر

أُصغي لأُمّي و هي تمسَحُ قُصّتي

أُصغي لفوضي قِصّتي

أُصغي لـ(ريمٍ) و هي تسرقُ حصتي

أُصغي لأحذيةِ الجنود


تأتي صرخة ريم (لا أريد) لتثبت لنا أن الصمت هنا فعل إرادة وأن المعضلة في الإصغاء وهو إنتفاء إرادة الكلام. أصوات أخري: صرخة شاعر سأصير يوماً ما أريد المقتبسة من قصيدة الشاعر محمود درويش الجدارية ، مرة أخري تركز علي مسألة الإرادة المؤجلة. الأصحاب مع التشديد علي صفة الكثرة، وكأنها تهكم علي الكثرة التي بلا فائدة، فلا أثر لهم. أصوات أخري: أمي… القصة وفوضاها… ومرة أخري ريم وهي تسرق الحصة… أحذية الجنود.


لتخفت الأصوات، وتختفي كلها ولا يتبقي سوي صوت واحد يبحث عنه الشاعر بشغف، إنه صوته هو وكأنه يعبر عن حالة فقدانه لذاته في خضم هذا الكم الهائل من البشر والعلاقات والصور التي تأسرنا وتمنعنا من إلإلتفات إلي ذواتنا التي تضيع وتصبح صدي يرجع من عمق البئر من خلال تعبير الذات المصغية بعد أن أصغت لكل أنواع الأصوات:


أُصغي لصوتي ضمّهُ بئرٌ عميق

أُصغي لموسيقي الحريق

والحلْمُ يغلي في العروق

أُصغي لصوت منبه

أُصغي… ولكنْ لا أُفيق.


إن أساس الصمت هو فقدان الإرادة علي الكلام فالذات تحاول البحث عن صوتها الذي أضاعته، لتجده في بئر عميقة، لتستمر في فعل الإصغاء من خلال عذابات الحريق، ليهزنا صوت المنبه محاولاً إيقاظنا من رحلة الصمت والإرادة المؤجلة، لكن هل نستفيق.. دون جدوي فنحن لا نفيق..


ويمكن أن نلخص الصورة العامة لحركة الفعل في القصيدة، إلي صمت الألم يتبعه عدم القدرة علي الكلام يتبعه إصغاء لعدة أصوات (مجازات، بشر، حوار، صمت، عدم، الصوت الداخلي المفقود، الإرادة المفقودة، غليان الحلم، المنبه) لينتهي بلا استفاقة ومن ثم عودة إلي صمت الألم وهكذا، وهو ما يوحي بأن القصيدة تستعمل أسلوب التدوير في الوصول إلي حالة من التوالد الذاتي لعملية الفعل في داخل البناء اللغوي للنص.

_______

· (آثار طفل في الرمال) عبد الدائم اكواصمنشورات مجلة المؤتمرالطبعة الأولي 2005 – طرابلس ـ ليبيا