لعل احد اهم الاسباب التي تجعلني اعشق مدينة متناقضة وصعبة المراس مثل لندن هو التاريخ الذي يرشح من كل ركن وشارع ومبنى في هذه المدينة الدولة. ولكن اقرب اجزاءها إلى قلبي هو المكان الذي اعمل به، وكنت فيما سبق قد قضيت فيه عاماً كاملاً لدراسة الماجيستير، وهو مبنى تشارترهاوس سكوير التابع لكلية كوين ماري جامعة لندن، ومستشفى سانت برثولوميو الذين تفصلهما مسافة قصيرة بين ازقة وحارات صغيرة تشكل اكثر الاماكن قدماً في لندن المدينة. ولندن المدينة او (المدينة) كما يطلق عليها احياناً هي عبارة عن ميل مربع في وسط مدينة لندن الكبرى، وهي النواة التي تكونت حولها احياء لندن الاخرى لتمتد حتى تصل إلى الحجم الذي عليه اليوم.

ويقع مبنى كلية الطب بتشاترهاوس سكوير ومستشفى سانت برثولوميو في الطرف الشمالي من (المدينة) وغير بعيد عنه هناك بعض المعالم المهمة للندن، من بينها مركز باربيكان الثقافي وهو عبارة عن عدد من الابراج السكنية الاطول في لندن بالاضافة إلى مركز للسينما والمسرح والعروض الفنية العامة والذي بني في نهاية الخمسينات من القرن الماضي على النمط الحداثي في العمارة وعلى انقاض المباني التي قصفتها الغارات الالمانية في الحرب العالمية الثانية، ومن الجهة الاخرى هناك كاتدرائية سانت بول (القديس بولس) والتي بنيت نهاية القرن السابع عشر بعد حريق لندن العظيم العام 1666 والذي اتى على ثلثي المدينة في ذلك الوقت وادى إلى تطور البناء المعماري في مدينة لندن من النمط القوطي القروسطي إلى النمط الباروكي المستعار من المعمار الايطالي والاوروبي بشكل عام.

أما في الجهة الجنوبية فسنجد شارع جدار لندن وهو الشارع الذي كان قبل اكثر من ألفى عام يشكل جزءً من الجدار الذي بناه الرومان عندما جاؤوا إلى النقطة التي ستبنى عليه المدينة، ليكون خط دفاع أول ضد هجمات القبائل الكلتية الاصلية للجزر البريطانية، وما يزال بقايا هذا الجدار مبعثرة بين المباني الحديثة والحدائق الصغيرة للميل المربع والذي يعد مقراً لأكبر الشركات المالية العالمية وينتج اكثر من 20% من الدخل السنوي لانجلترا.

يعود بناء بعض اجزاء من تشاترهاوس سكوير إلى منتصف القرن الرابع عشر وبالتحديد العام 1348 عندما تم تأجير قطعة ارض من أخوية مستشفى سانت برثولوميو التي كانت تمتلك بعض الاراضي في شمال شرق المدينة لتستعمل كمقبرة جماعية لضحايا مرض الطاعون الذي اجتاح المدينة كما هو الحال بباقي المدن الاوروبية الاخرى في ذلك الوقت، حيث كان يتم إلقاء الجثث في قبور جماعية في محاولة للسيطرة على المرض الذي حصد اكثر من ثلث قاطني المدينة البالغ عددهم في ذلك الوقت 70,000 نسمة، وتم بناء كنيسة ودير صغير مجاور للمقبرة والتي تحولت في العام 1371 مقراً لجماعة رهبانية مسيحية كاثولوكية تسمى طريقة كارتهاوسيان أو طريقة القديس برونو التي تأسست العام 1084 في مدينة كولون الالمانية وانتشرت فروعها في مدن اوروبية اخرى. كان الدير يحوي على عدد من المباني ويسكنه خمس وعشرون راهباً في كل الاوقات يمارسون طقوسهم الدينية الصارمة ونادراً ما يخرجون إلى ماوراء سور الدير.

في العام 1537 وبعد انفصال انجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية وتأسيس الكنيسة الانجليكانية (بروتستانتية) تم اغلاق كافة الاديرة الرهبانية في البلاد ومن بينها دير تشارترهاوس والذي عومل بقسوة من قبل السلطات الملكية، حيث اعدم اكثر من عشرة رهبان وادخل بعضهم سجن لندن الرهيب المعروف بأسم نيوجايت الغير بعيد من مستشفى القديس برثولوميو، والذي تم تحويله في القرن التاسع عشر في مفارقة عجيبة إلى مقر محكمة الجنايات الاساسية في المدينة الواقعة بشارع اولد بايلي.

تحول المكان بعد اغلاق الدير إلى مقر للعائلة المالكة ولبعض النبلاء الانجليز، ومدرسة داخلية خاصة، حتى اصبح الجزء الاكبر والاقدم منه في القرن العشرين داراً لكبار السن، والجزء الباقي مقراً كلية مستشفى سانت برثولوميو للطب والتي تحولت فيما بعد لكلية كوين ماري للطب وطب الاسنان وذلك في مطلع التسعينات من القرن الماضي. ومازال المكان يحتفظ بعدد من المباني القروسطية القديمة إلى جانب الكنيسة ببرج ساعتها والتي تم ترميمها بعد الدمار الذي لحق بها في الحرب العالمية الثانية.

أما مستشفى سانت بروثولوميو (القديس برثولماوس هو احد حواري المسيح الاثنى عشر والذي ولد في فلسطين في القرن الاول الميلادي وتم صلبه بعد سلخ جلده) فيعد من اقدم المباني التي استعملت بغرض الاستشفاء في بريطانيا، فهو يعود للعام 1123 ومازال بعض اجزاء تلك الفترة القديمة باقياً في شكل الكنيسة الملحقة بالمستشفى، أما الاجزاء الأخرى فقد بني بعضها في القرن السادس عشر وبعضها في القرن الثامن عشر والجزء الاحدث يعود لمطلع القرن العشرين، وسيتم افتتاح مبنى حديث قريباً ليعبر عن مرحلة القرن الواحد والعشرين الذي نعيشه الآن.

ولعل من المفارقات العجيبة أن سور المستشفى الشمالي القديم كان نقطة ألتقاء لبعض اكثر المتناقضات التي تشكل جزءً من تكوين هذه المدينة، فهنا نجد السوق الشعبي القديم وخاصة سوق الماشية والسلخانة الاساسية للمدينة والتي تم اعادة بناءها نهاية القرن التاسع عشر لتكون السلخانة المركزية لمدينة لندن والتي ما تزال تستعمل حتى يومنا هذا، وغير بعيد كانت احكام الاعدام تنفذ حتى مطلع القرن الرابع عشر ومن بين اشهر من تم اعدامهم في هذه النقطة هو المناضل الاسكتلندي الاسطوري وليام والاس والذي تم تخليده في فيلم ميل جيبسون (قلب شجاع).

كثيراً ما اجدني اذوب في تفاصيل المكان العجيبة ولا يمر الكثير من الوقت اما بجلوسي في حديقة تشارترهاوس سكوير حيث دفن المئات من ضحايا الطاعون أو واقفاً بالقرب من الدير حيث ترددت تراتيل الرهبان بين جنباته وانتهت بصرخاتهم وهو يموتون تحت التعذيب، أو عندما أمر من خلال السلخانة المركزية متخيلاً لغط السوق ورائحة روث المواشي المختلط بالدماء والطين والعرق، أو صرخة وليام والاس المشهورة (فريدوم) (حررررررررية) التي عذب واعدم بسببها، لا يمر الكثير من الوقت وأنا اسير بين الازقة القديمة لهذا الجزء من المدينة حتى اجدني قد اصبحت احد الشخوص التي مرت من هنا ثم تلاشت لتبقى المدينة في مكانها شاهدة على ما مر بها من حكايات واحداث، تاركة وراءها اشباحاً تطارد احلامها بلا خلاص.