حسناً.. اعترف أنني قد حاولت منع نفسي من الكتابة عن هذا الموضوع، ولكنني لم اجد للاستياء والامتعاض الذي يملؤني كل يوم عند قراءاتي للاخبار حول هذا المرض والاحصائيات التي توضع في شكل يوحي بأنها علمية، إلى جانب تعليقات القراء والمتابعين التي لن تجلب لك انفلونزا الخنازير وحسب ولكن قد تصيبك بالفالج والشلل الرعاشي وربما داء الكلب.

 

أولاً نأتي إلى بعض الحقائق العلمية حول المرض الذي سمي بشكل غير دقيق انفلونزا “الخنازير”، وسمي الآن انفلونزا فيروس اتش 1 ان 1، H1N1 flu virus. فالانفلونزا مرض فيروسي معروف منذ آلاف السنين، وحصد في سنوات مضت الملايين من الارواح في موجات وبائية عالمية آخرها كان العام 1968 والتي سميت بانفلونزا هونج كونج (وهي خليط من انفلونزا الطيور مع الخنازير) واستمرت حتى العام 1968 وقتلت اكثر من مليون شخص حول العالم.

 

لفيروس الانفلونزا القدرة على التغير والتطور بحسب الظروف البيئية المساعدة على ذلك، إلا أن الفيروس الموسمي الذي يصيب البشر كل عام هو فيروس متطور من عدة تحولات في التركيبة الجينية للفيروس تؤهله للعدوى ومن ثم الانتشار والتطور، ولكنه ما أن يترك وسيطه الحيواني سواء أكان ذلك خنزيراً أم طيراً أم حصاناً أم قطاً أم كلباً، فإنه يصبح فيروساً بشرياً لا علاقة لأي من الفيروسات الحيوانية به من الناحية الجينية، وفي نهاية تحوله إلى الشكل البشري لا يصبح الفيروس خطيراً إلا في حال استطاع أن يكون معدياً لينتقل من شخص إلى شخص. 

 

الفيروس الذي تم اكتشافه في المكسيك قبل اكثر من شهرين هو خليط، بحسب ما اثبته التحليل الجيني المنشور حديثاً، من فيروس قديم انتشر في السبعينات وانتقل إلى بعض الحيوانات ومن ثم انتقل إلى الانسان واستمر في التحول طيلة العام 2008، وحتى هذه اللحظة لم يتم معرفة الاصل الحقيقي للفيروس بالتحديد، مما يجعل تسمية انفلونزا الخنازير غير دقيقة من الناحية العلمية، ولكن على ما يبدو فإن التسمية انتشرت نتيجة عدم دقة وسائل الاعلام في نقل المواضيع العلمية كعادتها في هذا المجال.

 

وحتى هذه اللحظة لم يثبت ان الفيروس انتقل من الخنازير إلى البشر، بل إن كل الاصابات كانت بانتقال الفيروس من الانسان إلى الانسان، مع احتمالية إن ينتقل الفيروس من البشر إلى الخنازير مما دعا بعض الدول إلى عزل بعض مزارع الخنازير لمنع انتقال المرض إليها وبدء دورة حياة الفيروس من جديد.

 

أما بخصوص عدد حالات الاصابة بالمرض عالمياً، فحتى الساعة وصل عدد الحالات التي تم التعرف عليها إلى 3440  موزعة على 29 دولة توفي منها 48 حالة عالمياً. وبالنظر لاحصائيات الاصابة بالانفلونزا الموسمية التي تصيب سكان العالم كل عام فإن عدد المصابين يصل كل عام إلى ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين نسمة عالمياً، ويقضى المرض على ما بين ربع إلى نصف مليون مصاب سنوياً، من كبار السن وذوي الامراض المزمنة والتنفسية.

 

يبقى السؤال لما كل هذه الجعجعة حول هذا المرض؟!

 

الامر من وجهة نظري يتعلق بوسيلتين مختلفتين من التفكير أدت إلى هذه الموجة من الخوف المتزايد والعصابي احياناً. الوسيلة الاولى هي مراكز البحوث العلمية والمنظمات الصحية التي تتعامل مع المرض بشكل متجرد من خلال الادلة العلمية المستندة على التجربة والمشاهدة والاستنتاج واتخاذ اعلى درجات الدقة في عملها واستخدمها للمصطلحات العلمية التي تحمل تعريفات تختلف عن تلك التي تفهمها الوسيلة الثانية من التفكير إلا وهي الاعلام الاستهلاكي المبسط، وهو ما ادى إلى تسمية المرض باسم ساخر وغير دقيق، وإلى حالة من الرعب العالمي، جعلت من تجارة الكمامات تزدهر في عصر الركود الاقتصادي العالمي.

 

ولكن هل يعني كل هذا أنه لا وجود للخطر؟!

 

بالطبع لا، هناك دائماً خطر، فما دمنا نعيش في عالم تحكمه احصائيات باحتمالات المخاطر التي قد نتعرض لها كل يوم فإن اضافة انفلونزا الخنازير او القرود لقائمة هذه المخاطر لن يؤدي إلى المزيد من الكوارث البشرية، فموجة السونامي حصدت في عدة دقائق اكثر من ثلاثمائة ألف نسمة، وما يزال يموت اكثر من ستة ملايين طفل عالمياً نتيجة عدم توفر الغذاء الصحي والاساسي لهم.

 

ولكن ما يسبب انفلونزا الجهل هو ما يأتي من ركننا الساخر في هذا العالم، واعني به “العالم” العربي، وخاصة من خلال تعليقات القراء المنتشرة في المواقع والصحف العربية، والتي تعبر عن حالة من الاستسلام الخطيرة، والانهزامية، والشماتة الحمقاء، فمن قائل بأن المرض اصاب من اصابهم لأنهم يأكلون الخنزير أو يقومون بتربيتها، وهو ما أدى إلى بلاهة وحماقة حكومية الاولى من نوعها في العالم باعلان مصر نيتها التخلص من مخزونها القومي من الخنازير، ومن آخر يدعو أن يحفظ الاله ملته وأن يمحق الآخرين جميعاً، و لاضير إن كان من بينهم الاطفال الرضع والقاصرون ذهنياً.

 

وهو ما يعيدنا إلى نقطة الصفر دائماً، تلك النقطة التي يتخلى فيها العقل عن التفكير المنطقي العلمي، إلى سيطرة الوهم الغيبي على شعوب باكملها، تسعى وراء اخبار الاعلام الاستهلاكي لتؤكد تفوقها العرقي أو الديني على عالم واحد نشترك فيه جميعاً بمصير واحد ومستقبل واحد.