لكل مدينة سيرة ترتبط بالتاريخ والمكان والبشر، وسيرة بنغازي والتي حاول صديقي أحمد الفيتوري، والذي لديه كتاب يحمل نفس الاسم، أن يلخصها لي في يومي الثاني الذي قضيته في هذه المدينة، بالتجول في أحيائها وبحيراتها، وفراغاتها التي تقسمها إلى لوحة تشكيلية يمتزج فيها المعاصر والمنظم، بالقديم والفوضوي، ولعل في مبانيها التي بناها الايطاليون وغدا بعضها مهجوراً كمبنى الكاتدرائية، ما يوحي بالدهشة الموسومة بالحسرة. وكيفما كانت وجهتك وأينما أخذتك جولتك فإن العودة لمنتدى الاذاعة بشارع عبد المنعم رياض ستكون حتمية وفي بعض الأحيان مصيرية.
بعد الظهيرة شددنا الرحال لخارج المدينة في محاولة للإقتراب من حواف الجبل المتصف بالخضرة، تاركين البحر وراءنا، ولكن محاولة الفيتوري لإقتحام الجبل لم تنجح فأينما ولينا وجوهنا تلاحقنا سحب الغبار لتصفعنا، فالعجاج تواطأ مع الشمس والريح لتصبح رؤية المدى غير مجدية، فكان لنا أن نعود ادراجنا من حيث اتينا وعلى وعد للرجوع يوماً ما إلى ربيع في الجبل الاخضر قد يكون قريباً.
لكي تكتمل صورة المدينة في مخيلتك فعليك أن تمشي فيها، أن تلامس قدماك الارض وأن تتعثر بالارصفة وأن يعلو الغبار حذاءك الداكن، وسيكون من الافضل أن تضل طريقك في المدينة، عندها فقط يمكنك القول بأن زرت المكان وتعرفت عليه عن قرب، ولكن أن تضل طريقك في بنغازي سيكون صعباً، فمهما ابتعدت ستجد طريقاً يؤدي إلى البحر.
في المساء زرنا صديقنا الكاتب والروائي د. صالح السنوسي والذي احتفى بنا بأكلة عزابية شهية وبحديث حول التغيرات الاجتماعية للجيل الذي انتمي إليه، وبتذكر ايام وليال قضيناها معاً في شوارع لندن مع الكاتب الجميل جمعة بوكليب الباحث منذ عقدين عن طرابلس في بر الانكليز.
قبل منتصف الليل ارتفعت سحب العجاج لتغطي قرص القمر وشاب الهواء رائحة الرمال الزاحفة بوله إلى المدى الازرق الداكن، كانت بنغازي تستعد لغزو جديد لا يعرف من اي اتجاه يأتي وفي اتجاه سيرحل.
**

يوم ثالث وأخير في هذه المدينة المائية المستوية، والتي تمنحك صفة جديدة للزمن هنا، فلكل مدينة زمنها من حيث الشكل والحركة، والزمن هنا مستويٌ كأستواء السهل المنحدر باطراد من أعالي الجبل الآخضر والزاحف بشراسة من الصحراء الجنوبية غرباً، الغرب الذي كنت اظنه يحمل معنى واحد أنا القادم مدينة التراب والبحر، لأكتشف أن للغرب والاتجاهات عموماً معاني لا تحصى في هذه المدينة المصبوغة بالملح والطين.

قبل أن اصعد الطائرة المتجهة شرق الغرب راودني احساس بأنني قد اتيت بنغازي في حياة سابقة وأنني حتماً سأعود لأقتات من حكاياها في حياة لاحقة، وأنني الآن فقط بدأت أفهم الجزء المتبقي من الغموض الذي يلف اسمي، وانني اخيراً سأنظر للمرآة لأرى وجهي وهو يكتسي لوناً مختلفاً، لون هو مزيج من ألوان هذه المدينة التي ما تزال تبحث عن اتجاهها وما تزال تشع ببريق يأبى التلاشي.. واكتشفت والطائرة تعلو في السماء أنني كلما ابتعدت عن جزء من هذه الارض اجدني ازداد اقتراباً منها.. فلا مفر من ربقتها سوى بمزيد من الابتعاد، لكي تتضح الصورة ويكتمل الحلم..

_________
* أحب أن اشكر كل الاصدقاء والزملاء الذين احتفوا بي في مدينة بنغازي (مع حفظ الالقاب) صالح قادربوه، أحمد الفيتوري، ليلى النيهوم، خلود الفلاح، خديحة بسيكري، طارق الشرع، صالح السنوسي، محمد السنوسي الغزالي، جابر العبيدي، عطية الاوجلي، خالد المهير، وادريس المسماري.