اينما وليت وجهك فستجد البحر امامك.. للشمال هنا معنى مغاير وللنسيم الرطب المشبع برائحة الملح مرادف جديد قد يرتبط بالقبلي والعجاج. إن كان ذنب أنني احط الرحال للمرة الاولى بمدينة امتلك نصف اسمها، فإن لليبيا ذنب أنها كانت اكبر من مساحة أن نعبرها بأفق العين الضيق، هذه القارة التي ما تزال ترهقنا بحملها كلما عبرنا بحرأ أو محيطا للتحديق فيها عن قرب أكثر. يوم الاثنين الماضي وصلت على متن شركة البراق للنقل الجوي صباحاً إلى مطار بنينة احدى ضواحى مدينة بنغازي، ومنه عبرت السهل المستوي إلى مدينة تحيرك ما ان تلج بوابتها فلا تدري إن كانت تقتطع لنفسها من البحر شيئاً أم أن البحر يحاول دائماً أن ينفذ إليها عبر مسامات الارض العطشى للمزيد من الملح. لبنغازي وجهان، وجه يبشرك بأن معرفة كنهها سيكون سهلاً وبسيطاً، ووجه ينذرك بأن الوجوه الحقيقية قد تختفي وراء الاقنعة التي تمنحك مساحة للخيال والوهم.
كان في استقبالي في شارع عبد المنعم رياض بوسط المدينة والذي يعرف كذلك بشارع الاذاعة صديقي صالح قادربوه الذي كان رفيقا، رفيقاً بي، أنا القادم من غرب إلى غرب إلى شرق، صالح الذي يحب أن ينافسني في لعبة الصمت المتأملة كعادة الشعراء القلقين، ارشدني إلى أن لبنغازي اسماء أخرى غير التي نعرفها، اسماء تقترن بمعاني يصعب لقادم جديد مثلي أن يستوعبها في ثلاث أيام، ولكنني حاولت ولعلي فشلت بمعرفتها كلها ونجحت في تهجي احداها. في منتدى الاذاعة الواقع بشارع عبد المنعم رياض مقهى وملتقى جميع المشتغلين في الثقافة والفن والادب وعابري السبيل من امثالي، كانت البداية وعبر الاحاديث اللامنتهية للأصدقاء بدأت تتضح الابعاد الحقيقية لجغرافية المكان وارتباطه بصنوه اللدود التاريخ.
وكان معيني لفك هذه العلاقة صديقي أحمد الفيتوري، الذي بدا أن المدينة قد تداخلت مع كينوته وذابت في ذاتيته، وعبر حديثه الذي لا يمل بدأت استوعب أن لبنغازي اسم ووجه واحد وليس كما اعتقدت مسبقاً، ولكي ترى هذا الوجه، وتنطق هذا الاسم، عليك أن تكون هنا قبل اربعين وقوفاً، لتدرك أن الزمن قد يقرر فجأة الامتناع عن الحركة في مدينة ما، ولتدرك أن الغد قد يكون هو الامس في بعض الاحيان وأنه يجوز للحجر أن يتوقف عن التحرك بفعل الانسان، وأن البحر قد يقرر فجأة كذلك التراجع عن فكرة غزو الطين الداكن المختلط بالصخور التي تكون سهل بنغازي.
وتبقى للأسماء سحرها لدى عابر السبيل والتي علمت منها ما استطعت حمله في الذاكرة التي تتسع ثقوبها، الصابري، جليانة، الكيش، الفويهات، البركة، قاريونس، السلماني، سيدي حسين، راس اعبيدة، طابلينو، وما لا ينتهي من اسماء الميادين والشوارع وبذا استطعت ان افك بعضا من ألغاز مدينة تعرف من تكون وتصر على الجهر بهويتها على الرغم عوامل الزمن التي أكلت مدارسها وشوارعها ومبانيها وبعضاً من ساكنيها، والذي ما يزال يأكل بعضاً مني كذلك. ولكن الزمن لم يخترق حيوية ونشاط أغلب سكان بنغازي وهم يمارسون البقاء، ولعل في مظهر أن معظم سائقي السيارات الخاصة وهم يعملون كسيارات للأجرة، فدينار سيقصر المسافة بين بحيرة وأخرى، ما يمنحك مزيداً من اشارات الاستفهام التي تدور في فلك الكائن الليبي الجدلي، فمن جانب قد يوحي بالامل وقد يوحي بالفوضى وقد يوحي باليأس، ولك أن تختار، فعابر سبيل مثلي لا يملك سوى أن يتساءل ويعيد التساؤل، عله يجد الطريق إلى تبنّي هويته الجديدة…
يتبع
_____
* أحب أن اشكر كل الاصدقاء الذين احتفوا بي في مدينة بنغازي (مع حفظ الالقاب) صالح قادربوه، أحمد الفيتوري، ليلى النيهوم، خلود الفلاح، خديحة بسيكري، طارق الشرع، صالح السنوسي، محمد السنوسي الغزالي، جابر العبيدي، عطية الاوجلي، خالد المهير، وادريس المسماري.